الرئيسية » أخبار » إبراهيم نوار يعيد قراءة تقرير التنافسية الدولية وترتيب مصر

إبراهيم نوار يعيد قراءة تقرير التنافسية الدولية وترتيب مصر

كتب الخبير الاقتصادي إبراهيم نوار تحليل لتقرير التنافسية الدولية وترتيب مصر وطرق الحساب والتقييم والترتيب في التقرير بعنوان

” مصر وقدراتها التنافسية، هل نحن مستعدون للمستقبل؟”

ربما يسخر بعض الناس من عنوان هذه الرسالة، متسائلين: وهل نحن من الأصل قادرون على مواجهة الحاضر حتى نستعد للمستقبل؟ ومعهم حق. إن حقائق الحاضر في حياتنا اليومية ضائعة بين كذب السياسيين، ونفاق الوصوليين، وغباء الأكاديميين، وبين شقاء ومشقة التجربة الحياتية كل يوم. الناس تسمع شيئا، وتعيش شيئا آخر، كأنما المجتمع كله قد أصبح مصابا بانفصام عميق في الشخصية، بين (أنا) زائفة و(أنا) شقية.

ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نهرب من مواجهة حقيقة بسيطة، ألا وهي أن شمس اليوم عندما تغرب، فان ذلك لأنها ستشرق في اليوم التالي، صانعة يوما جديدا. هكذا هي الحياة، تتجدد باستمرار ولا تكف عن الحركة. ومن ثم فإن المستقبل سيظل واقفا لنا بالمرصاد، لن نتمكن من الهرب منه، لأنه هناك دائما، مع الشمس التي ستشرق في صباح اليوم التالي.

السبب الذي يدعوني الى التساؤل عن مدى استعدادنا للمستقبل يرتبط في واقع الأمر بتقرير التنافسية العالمي الجديد الذي صدر يوم 16 اكتوبر الحالي، وكتبت عنه فور صدوره. هذه المرة لا اكتب عن مصر وجيرانها، وانما اكتب عن كيف رأى التقرير حالة الإقتصاد كما يبدو للآخرين، بعد تفحص الحالة والتدقيق فيها بعناية.

التقرير كما ذكرت في رسالتي السابقة في هذا الموضوع، يوضح ان مصر تقدمت بشكل عام على سلم المكانة التنافسية العالمية. ولا شك ان هذا من شأنه ان يسعدنا جميعا، يسعدنا أن يرانا الآخرون أفضل مما نحن عليه فعلا. وأعني بذلك أنه عندما يستنتج التقرير عن مصر انها تقدمت الى المركز 94 بين 140 دولة، فإن هذا الإستنناج، قد يحتاج إلى إعادة نظر، من باب الصدق مع النفس.

وعلى الرغم من الطابع التحليلي المتقدم والدقيق للتقرير، إلا ان المادة الخام الأساسية (المعلومات) التي يعتمد عليها تأتي من مصادر محلية، فأرقام الانتاج والتشغيل والتضخم والاستثمار والجريمة واتاحة التمويل للمشروعات الصغيرة والمتوسطة مثلا، هي أرقام محلية مصرية من إنتاج الأجهزة الحكومية. صحيح ان تقرير التنافسية يضع هذه الأرقام في سياق مختلف، وفي داخل نطاق مقارنات اوسع واكثر تنوعا ودقة، لكن وجود تشوهات في الأرقام الأولية، وهي المادة الخام للتحليل الاقتصادي، تترك ايضا قدرا من التشوهات على التحليل والاستنتاجات النهائية للتقرير.

هذه الملاحظة قد تؤخذ على أنها وجهة نظر تنقصها الموضوعية، مالم يتم إسنادها بأمثلة حية. واليكم بعض الأمثلة:

1- يقيس التقرير المستوى العام للطرق في مصر من حيث كفايتها وتوزيعها وقدرتها على توفير الإتصال الجيد في كل انحاء البلاد بنسبة 71%، وهذه واحدة من أعلى النسب التي حصلت عليها مصر في المؤشرات المختلفة (بعد حجم السوق). وبناء عليه فقد صنف التقرير نوعية الطرق في مصر بدرجة 4.5 من مؤشر يبلغ حده الأقصى في العالم 7 درجات. وبالنظر الى معدلات حوادث الطرق، وصعوبة الاتصال في المحافظات النائية والأرياف، وسوء الطرق بين المدن في داخل كل المحافظات تقريبا، فإنه من الصعب قبول درجة التصنيف التي منحها التقرير للطرق في مصر.

2- يقدر التقرير ان 10.9% من السكان، أي حوالي حوالي 10 ملايين شخص، معرضون لشرب مياه غير آمنة، وأن درجة الاعتماد على امدادات مياه مضمونة وموثوق فيها تبلغ 4.9 درجة على مقياس حده الاقصى 7 درجات، أي بنسبة 70%. وهناك شكوك قوية تحيط بالأرقام الخام التي اعتمد عليها التقرير، سواء فيما بتعلق بنوعية مياه الشرب، او فيما يتعلق بضمان الامدادات والاعتماد عليها والوثوق فيها. نحن نعرف كيف تعاني محافظات كثيرة من تلوث مياه الشرب، او من نقص امداداتها، او منهما معا. ومن هذه محافظات مهمة جدا ورئيسية مثل محافظة الجيزة.

3- يبالغ التقرير كثيرا في قدرة مصر التنافسية في المهارات البشرية المتعلقة باستخدام تكنولوجيا المعلومات. وقد استنتج أن المهارات الرقمية digital skills بين السكان تصل كفاءتها الى حوالي 60% تنافسيا، حيث حصل المؤشر على تقييم ب 4.2 درجة من 7 درجات!

4- ارقام الجريمة ومعدلات الإنتحار والنزاعات المدنية وسلامة القضاء، وغيرها من المؤشرات التي عادة ما يتم تسويدها على الورق لغرض تبييض الإحصاءات، لا تعكس الواقع، وهي في معظمها مفبركة، وذلك على الرغم من أن مؤشر تنافسية المؤسسات التي هي جزء منه وضع مصر في مكانة متدنية حيث حصلت على المؤسسات على 48 درجة من 100.

وقد أردت بتلك الملاحظة والأمثلة أن أنبه إلى حقيقة مفادها أن المؤسسات الحكومية عندما تحتفل أحيانا بتقرير دولي يشيد بها، فإنها غالبا تحتفل بأرقام فبركتها هي، ثم صدرتها، وبعد صدورها “في تقرير دولي” يكون لديها المبرر للإحتفال بها. ومع ذلك فإن البروفايل الذي قدمه التقرير للإقتصاد المصري يكتسب أهمية فائقة، نظرا لأنه كما قلت يضع الإحصاءات المصرية في سياق عالمي وإقليمي أكثر إحكاما وأشد دقة.

كذلك فإن أهمية معالجة تقرير التنافسية لحالة الإقتصاد المصري، تكتسب بعدا تحليليا عميقا بسبب إخضاع الإحصاءات المصرية لتصنيف دقيق وضعه التقرير لمحاور التنافسية (12 محورا)، وللمتغيرات التي تحتويها هذه المحاور (98 متغيرا).

ثم إن التقرير بعد ذلك يعيد تقييم الأداء الكلي للإقتصاد ليس على أساس متغير واحد فقط، مثل إجمالي الناتج المحلي أو معدل النمو، وليس على أساس محور واحد فقط مثل رأس المال المادي او راس المال الإجتماعي، وإنما على أساس توليفة من كل محاور التنافسية حسب الوزن النسبي لكل منها.

وقد حصلت مصر على تقييم لقدراتها التنافسية حسب التقرير بدرجة 54% وهي نسبة تقل عن المتوسط العالمي (60%)، وتضع تنافسية مصر بالتالي في درجة “تحت المتوسط”.

وليس عيبا أن تكون فيتنام قد تقدمت علينا، أو أن نكون أقل من الأردن في قدرتنا على المنافسة، فالأمم لا تقف مكانها، وإنما هي تتقدم. ومصر أيضا تستطيع أن تتقدم

المشكلة في تحليل قدرات مصر التنافسية، أن محركات قوتها هي كمية وليست كيفية مثل حجم السوق وعدد السكان. وقد جاءت مصر في الترتيب ال 24 من حيث حجم السوق وحصلت على 73 درجة من 100، لكنها في المؤشرات النوعية حصلت عموما على تصنيف منخفض، وكانت قدرتها على الإبتكار والتجديد التكنولوجي innovation هي الأقل (38 درجة من 100). وهنا تحديدا يبدو وجه الخطورة في الإستنتاجات التي توصل إليها التقرير.

لماذا؟

ببساطة لأن محركات النمو والانتاجية والقدرة على المنافسة ليست هي حجم السوق المحلي، وليست هي عدد السكان، وليست هي حجم الإنتاج المادي. محركات النمو والإنتاجية والقدرة على المنافسة، كما قلت بمناسبة الاحتفال بنموذج رومر في رسالة سابقة، هي المعرفة والتطبيقات التكنولوجية ومهارة العمل. المعرفة هي بحق قائد النمو.

وقد شرح واضعوا التقرير في صندوق مميز طريقة حسابهم لدالة الإنتاج، ومستوى الإنتاجية، ومستويات النمو والقدرة على المنافسة. وبينوا بصورة قاطعة انهم اعتمدوا على نماذج (رومر) و(سولو) وغيرهما من الإقتصاديين المعاصرين الذين طوروا دالة الإنتاج من صورتها الكلاسيكية إلى صورتها الكلاسيكية الجديدة، لتفسير كيفية بناء القدرة على المنافسة، ومن ثم تحقيق معدلات نمو أسرع.

لقد جاء ترتيب سوق العمل المصرية في مستوى القدرة التنافسية بين دول العالم التي شملها التقرير في المركز 130، كما جاء ترتيب مصر في درجة استقرار السياسات المالية الكلية في المركز 135 بين 140 دولة، وفي تنافسية سوق السلع والمنتجات جاءت مصر في الترتيب 121، وفي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات جاءت في الترتيب 100، وهي كلها مراكز تقل عن المركز العام الذي حققته مصر على مؤشرات التنافسية في تقرير العام الحالي 2018.

أعود إلى عنوان هذه الرسالة، بعد ما عرضت كيف يرى تقرير التنافسية مصر من بعيد. هل نحن مستعدون للمستقبل؟ الإجابة هي : ليس بعد. محرك النمو هو المعرفة. محرك زيادة الإنتاجية هو المعرفة. محرك التنافسية هو المعرفة. والمعرفة ترتبط مباشرة بالصحة والتعليم والتدريب واعادة التدريب والتأهيل واكتساب المهارات التكنولوجية العالية. ومصر ما تزال بعيدة جدا عن بناء قدراتها المعرفية والتكنولوجية بجدية.

فهل نقلق؟

نعم، أظن أننا يجب أن نقلق، لاعتبارين، الإعتبار الأول حاضر، وهو يتمثل في أن الثورة الصناعية الرابعة، هي حقيقة يعيشها ملايين البشر حول العالم كما قال كلاوس شوابس في تقديمه لتقرير التنافسية. وهي كما تخلق فرصا جديدة للحكومات ومؤسسات الأعمال والافراد، فانها أيضا تخلق تهديدات تتمثل في زيادة حدة الإنقسام والإستقطاب بين المجتمعات.

اما الإعتبار الثاني فهو حقيقة تاريخية لا يمكن لأحد أن يتجاهلها، ألا وهي أن 23 قرنا من الزمان مرت وراءنا تثبت أن مصر بسبب موقعها وثروتها ومكانتها، كانت في حال ضعفها الجائزة الكبرى التي تحصل عليها القوة المنتصرة في العالم، وتتوج بها إمبراطوريتها. فعلها الإسكندر الأكبر، وفعلها سليم الأول، وكاد أن يفعلها نابوليون بونابرت، لولا أن الإنجليز أخرجوه ثم حصلت عليها الإمبراطورية البريطانية. ولأن التاريخ لا يعيد نفسه، فإن أشكال السيطرة اختلفت، ولن تتوقف عن الإختلاف.

أظن أننا يجب أن نقلق، ويجب أن نستعد للمستقبل.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.