الرئيسية » مقالات » الدكتور عبدالهادي محمد عبدالهادي يكتب ” توابع الزلزال “

الدكتور عبدالهادي محمد عبدالهادي يكتب ” توابع الزلزال “

توابع الزلزال كزلزال عنيف، ضربت جائحة كورونا العالم، وكما يخلف الزلزال موجات ثانوية وتوابع، بدأت توابع الأزمة في الظهور سريعا. دخل العالم في أزمة كبرى، الإقتصاد في حالة ركود، وانخفض الناتج الإجمالي العالمي في الربع الأول من هذا العام بنسبة 0.8 % . قد لا يبدو الإنخفاض كبيرا، لكن أي نمو عالمي بمعدل أقل من 2 % يعد ركودًا، وهو ركود مشابه لما حدث في السبعينات، والذي أطلق موجة من الصراع الطبقي وقتها. كان عام 1974 نقطة التحول،حيث انخفض نمو الناتج الإجمالي العالمي في هذا العام انخفاضا حادا، من حوالي 6 % في العام السابق، إلى أقل من 1 % . لذلك يتوقع أن يكون للانخفاض الحالي تأثير مشابه، وربما على نطاق أوسع، مما حدث في السبعينات.

تزداد آفاق الاقتصاد العالمي كآبة؛ ويواجه النظام أزمة عضوية مع حالة ركود تؤثر على جميع دول العالم في وقت واحد، أزمة أكبر مما رأيناه في 2008، وربما أكبر من أزمة الكساد الكبير في 1929-1933. من المتوقع أن تشهد الولايات المتحدة-أكبر اقتصاد في العالم- انخفاضًا بنسبة 30 % في الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثاني من هذا العام… وحذر وزير الخزانة الأمريكي من أن معدل البطالة قد يقفز إلى 20%، كان معدل البطالة عقب أزمة 2008 في حدود 10% فقط، وتتوقع جمعية المطاعم الوطنية الأمريكية فقدان ما بين 5-7 مليون وظيفة في الأشهر الثلاثة القادمة..وتقول رابطة السفر الأمريكية أن خسائر الوظائف المحتملة قد تكون 4.6 مليون بحلول نهاية الشهر المقبل/ يونيو 2020.

وتشير التقديرات في الصين إلى أن الاقتصاد انكمش في الربع الأول بنسبة 40 % مقارنة بالربع الأخير من العالم الماضي، وهو أكبر انخفاض منذ 50 عاما. ووفقا لبيانات منظمة العمل الدولية فإن 1.6 مليار عامل في العالم فقدوا- أو معرضين لفقدان- وظائفهم بسبب الجائحة، ويمثل هذا العدد حوالي 24 ضعف عدد سكان بريطانيا، كما أنه يمثل حوالي نصف القوى العاملة في العالم، والتي تبلغ 3.3 مليار. ونشر فريق من البنك الدولي في 29 أبريل الماضي توقعات تفيد بأنه حتى بعد فتح الإقتصاد، فإن تأثير الجائحة سيدفع 49 مليون شخص إضافي إلى فقر مدقع طويل الأجل، وأن يواجه العمال غير الرسميين في إفريقيا والأمريكتين إنخفاضا في الدخول بحوالي 81% .

وتعكس هذه الإحصائيات الصادمة إنتشار ظاهرة العقود المؤقتة وقصيرة الأجل، والتي انتشرت في معظم البلدان في السنوات الأخيرة، والمحصلة هناك 2 مليار شخص في العالم- يمثلون نحو ثلثي قوة العمل العالمية- يعملون في الإقتصاد غير الرسمي، لا يتمتعون بدخول ثابتة، ويواجهون الآن ظروفا صعبة، فليس لديهم ما يكفي للطعام والسكن وفواتير العلاج ومستلزمات النظافة. ويشير تقرير لبرنامج الأغذية العالمي إلى أننا ندخل الآن فترة أزمة اقتصادية واجتماعية عالمية لم نشهد مثلها منذ الحرب العالمية الثانية؛. ويقدر البرنامج أنه قبل كوفيد-19 كان أكثر من 821 مليون شخص حول العالم يعانون من الجوع المزمن، و 135 مليون آخرين على حافة المجاعة؛ ويشير التقرير إلى أنه من المرجح أن يتضاعف عدد الأشخاص الذين يواجهون المجاعة في الأشهر القليلة القادمة إلى أكثر من 265 مليون نتيجة للآثار الاقتصادية والصحية لكوفيد -19؛ و أن حصيلة القتلى بسبب التأثيرات الإقتصادية للفيروس؛ ستكون أكبر من ضحايا الفيروس نفسه. وتؤكد الإحصائيات على أن إنتاج الغذاء العالمي الآن كاف لتلبية متطلبات ما يقرب من 10 مليار شخص، الأمر الذي يكفي سكان العالم لمدة 30 عامًا أخرى، ومع ذلك، يعيش الملايين من الناس على حافة المجاعة، وتتوقع الأمم المتحدة أن تعاني 35 دولة من مجاعات واسعة النطاق في الفترة القادمة. كشفت الأزمة عن فشل كامل للنظام، لم تعد الرأسمالية قادرة على توفير أوضاع معيشية مستقرة للغالبية، لدرجة أن نصف القوى العاملة -هؤلاء الذين يجعلون النظام يعمل- يواجهون البطالة والعوز والجوع. ومع ذلك يكذب رجال الأعمال والأكاديميين الذين يطلبون منا “أن ننظر إلى “الجانب المشرق”، وأن نرى”أن “مستويات المعيشة ترتفع” وأن “الناس أصبحوا أكثر ثراء” في ظل الرأسمالية. الحقيقة عكس ذلك تماما، صحيح ان الأغنياء يزدادون ثراء، لكن الفقراء يزدادون فقرا، وعلى الرغم من أن الفيروس نفسه “لا يميز” بين الطبقات، فإن عواقب الأزمة تقع أساسا على كاهل العمال والفلاحين والفقراء عموما؛ وعلى الرغم من انكماش الاقتصاد، لا تزال الأرباح تتدفق إلى حسابات النخب السائدة، ولا يزال التفاوت العالمي في ازدياد، والرياضيات بسيطة، 1.6 مليار شخص لا يملكون أي شىء، في حين لا يوجد سوى 2095 ملياردير حول العالم، بثروة مجموعها 8 تريليون دولار.

يهدد الوباء باستمرار تأثير الركود لمدة قد تصل إلى عامين، وربما يحول إلى كساد، وعندما ينتهي الوباء، لن تكون هناك عودة للحالة “الطبيعية” أو “المعتادة”، وسيكون العقد القادم أكثر اضطرابا من العقد الماضي. في البداية، ستحاول النخب الحاكمة إستعادة الاستقرار من خلال مناشدات بوحدة الصف والمصير والوحدة الوطنية في مواجهة الوباء، وتحت هذه اللافتة، ستفرض إجراءات إستثنائية وصارمة، وسيحاولون إجبار العمال على دفع تكاليف الأزمة والعمل من أجل سداد الديون. ومع أن الفترة الماضية شهدت تآكلا في شرعية النخب والمؤسسات الحاكمة، إلا أن الكثيرين قد يتقبلون هذه الإجراءات الجديدة، لأنهم يعتقدون أنها مؤقتة وضرورية، أو لأنهم يظنون أن الدولة تعمل لمصلحة الأمة ككل. لكن بمرور الوقت، ستتكشف الأمور، وسيتضح للجميع، من الذين يُطلب منهم أن يدفعوا التكاليف ويتحملوا الخسائر ، ومن الذين تتم حماية مصالحهم وأرباحهم. يُطلب من العمال دائما تقديم التضحيات، لكن هناك حدود لهذه التضحيات، وبمجرد الوصول إليها، ستتحول المناورات إلى غضب عارم، وسيتحول الهواء الساكن إلى رياح عاتية.

نحن في مستهل فترة من الأزمات؛ والحروب؛ والثورات والثورات المضادة، وتلوح في الأفق المزيد من الاضطرابات في كثير من الدول. والكارثة التي نواجهها اليوم هي نتاج النظام الرأسمالي الذي أدي إلى تدمير البيئة: تغير المناخ؛ وإنقراض الأنواع؛ وزيادة الأوبئة، الفيضانات وموجات الجفاف تضرب مناطق مختلفة من العالم، وتهدد أسراب الجراد سبل عيش الملايين. كارثة تلو الأخرى تضرب كوكبنا، لكننا لسنا أمام ظهور “المهدي المنتظر” أو “المجىء الثاني للمسيح”، كما قد يظن البعض، إنها آلام موت النظام الذي أصبح يشكل قيدا على تطور المجتمع البشري. خلال تلك المراحل، وعلى غرار ما يحدث في أوقات الحروب، يمر وعي الجماهير بتحولات دراماتيكية كبرى، تدفع الأحداث الكبرى الناس للتفكير في الأزمات وتجبرهم على مراجعة وإعادة تقييم كل المواقف، كل ما كان يعتبر عاديا وبديهيا، أو من المسلمات، قد يتغير، من أصغر العادات اليومية إلى الأعراف والتقاليد الوطنية.

تدرك النخب الحاكمة الإمكانات الثورية الكامنة في الأوضاع الراهنة والمقبلة، وتدرك أن الحركات الجماهيرية ستعود بمجرد أن يتمكن الناس من العودة إلى الشوارع، وأنه بعد انحسار الجائحة ، وربما قبل ذلك، ستبدأ موجة جديدة من الصراع الطبقي. الفيروس هو الشيء الوحيد الذي يؤجل الصدام، وبمجرد أن يهدأ الغبار، ستبدأ الجماهير في التحرك، ولن تفلت بلد من توابع الأزمة الزلزال. هذا ما دعى صحيفة “الإيكونوميست” على مضض إلى استنتاج أنه “بطريقة أو بأخرى، ستأتي الفواتير في نهاية المطاف، وقد لا تكون هناك طريقة غير مؤلمة لتسويتها “. في النهاية، المجتمع منقسم إلى طبقات، وسيتعين على الطبقة الرأسمالية أو الطبقة العاملة، أن تدفع تكاليف هذه الأزمة، والنتيجة النهائية لن تقررها المعادلات الرياضية أو المناظرات الفكرية، ولكن يقررها الصراع بين القوى الحية على الأرض.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.