Site icon بوابة التحالف الإخبارية

الدكتور عبدالهادي محمد عبدالهادي يكتب : من قتل مارييل فرانكو؟

من قتل مارييل فرانكو ؟

د. عبدالهادي محمد عبدالهادي 

فى الشهر الماضى عصفت فضيحة درامية متعددة الأبعاد بحكم الرئيس البرازيلى المنتخب حديثا “جايير بولسونارو”، وبدأت القصة بعد أيام من فوزه فى الانتخابات الأخيرة، ومن قبل أن يتم تنصيبه رسميا فى الأول من يناير وحتى الآن لا تزال الفضيحة تشل رئاسته للبلاد. كان الرئيس اليمينى المتشدد قد خطط لكل شىء، ورتب أوراقه ووزراؤه للسفر إلى مؤتمر دافوس لعرض خطط البرازيل لجلب رأس المال الأجنبى، لكنه وجد نفسه مضطرا -هو وكبار وزراؤه- لترك مؤتمر صحفى كان مقررا لتجنب الإجابة على أية أسئلة تدور حول الفضيحة، انسحبوا من المؤتمر وتركوا المقاعد خالية، وبدلا من أن يصدروا الثقة صدروا الخوف للمستثمرين، وهكذا تشكل وجه الحكومة البرازيلية الجديدة! تتعلق الفضيحة في المقام الأول ب”فلافيو” -الإبن الأكبر للرئيس بولسونارو- وكان فلافيو قد شغل لوقت طويل منصب نائب الدولة أو محافظ ولاية “ريو دي جانيرو”، وتم انتخابه في الانتخابات الأخيرة لعضوية مجلس الشيوخ الفيدرالى. بدأت الفضيحة مع اكتشاف تحويلات مالية مريبة ومدفوعات مشبوهة ومجهولة المصدر فى حساب سائق سيارة إبن الرئيس، وهو ضابط شرطة سابق، وصديق قديم للرئيس وعائلته. فى الأيام التالية بدأت تتكشف أبعاد أخرى فى القضية، وأصبح كل كشف جديد يمثل دليلا إضافيا على خطورة الفضيحة واتساع مداها، خصوصا بعد أن تم اكتشاف إيداعات مالية غير معتادة ومجهولة المصدر في حساب “ميشيل” زوجة الرئيس! لجأ فلافيو، وسائقه، وزوجة الرئيس، إلى استخدام كل المناورات المشبوهة لوقف التحقيقات فى البداية، لكن ما حدث بعد ذلك كان خطيرا جدا. ارتفعت قيمة التحويلات المشبوهة إلى ملايين الدولارات، وتم اكتشاف عدد عن الإيداعات المتتالية تمت فى حسابات فلافيو خلال فترة زمنية قصيرة، وصل عددها إلى 10 ودائع نقدية، فى غضون ثلاث دقائق، وهى علامات مميزة لعمليات غسيل الأموال والتهرب من قوانين المصارف. لكن حدثين أخيرين حولا ما بدا أنه مجرد فضيحة رشى وغسيل أموال تقليدية إلى مرحلة أكثر سوءا ورعبا ودموية. فى آخر يناير الماضى ألقت شرطة “ريودى جانيرو” القبض على خمسة أعضاء فى ميليشيا مسلحة من تلك الميليشيات التى انتشرت فى البلاد فى السنوات الأخيرة، ووصفت الميليشيا التى قبض على خمسة من أعضائها بأنها الأكثر خطورة فى البلاد، وهى متهمة باغتيال اليسارية “مارييل فرانكو” عضو مجلس المدينة عن “حزب الحرية والإشتراكية”- “بى إس أو إل”- فى مارس 2018م. وكشف لاحقا أن “فلافيو بولسونارو” كان قد كرم بصفته الرسمية اثنين من الأعضاء القياديين فى تلك الميليشيا، كما أعطى جائزة لرئيسها، والأكثر إثارة للدهشة هو أن والدة رئيس هذه الميليشيا وابنته كانتا على قوائم مرتباته الشهرية على مدار السنوات العشرة الماضية، ورأى البرازيليون الحقيقة واضحة وعارية: عائلة الرئيس ترتبط بصلات قريبة وعلاقات وثيقة مع ميليشيات مسلحة، بما فيهم تلك المتهمة باغتيال “فرانكو” الوحشى. بعدها بأيام أعلن “جون ويليس” عضو مجلس النواب عن نفس الحزب “حزب الحرية والإشتراكية”، والممثل الوحيد فى البرلمان عن حركة “إلى جى بى تى” التى تتبنى الدفاع عن حقوق المثليين، والمعارض اليسارى اللدود لسياسات الرئيس “بولسونارو”، عن هروبه إلى خارج البلاد بسبب تلقيه تهديدات بالقتل، وفسر مخاوفه بالعلاقة الوثيقة التى تربط عائلة الرئيس بالميليشيات المسلحة خصوصا تلك الميليشيا التى قتلت زميلته فى الحزب “مارييل فرانكو” فى العام الماضى. فمن قتل مارييل فرانكو؟ ولدت “مارييل” فى أحد الأحياء الفقيرة فى “ريودى جانيرو” عام 1979م، وعندما وصلت التاسعة عشرة كانت قد أصبحت أما لطفلة، تخرجت فى الجامعة ثم حصلت على درجة الماجستير فى علم الاجتماع، امرأة سوداء تدافع عن حقوق الفقراء والنساء والأقليات، وتقود حملات دعائية وقانونية وسياسية ضد الفساد وعنف الشرطة وعمليات القتل خارج القانون التي تستهدف سكان المدينة من الفقراء والسوداء الذين ترعرعت معهم، لم تكن تخفى ميولها المثلية في بلد يسيطر عليها العنصرية والتمييز على أساس الجنس والعقيدة الدينية التقليدية، وتدريجيا أصبحت واحدة من أكثر نشطاء حقوق الإنسان فعالية في المدينة، وانضمت إلى حزب اليسار الجديد “حزب الاشتراكية والحرية” (PSOL) وسرعان ما أصبحت واحدة من أهم رموزه. وفى عام 2016 ترشحت لعضوية مجلس مدينة “ريو”، وتم انتخابها، لكن نتائج الانتخابات أصابت الطبقة السياسية الحاكمة بالذهول، فلأول مرة تحصل امرأة سوداء تعيش فى مجمع “مارى” الفقير على هذا العدد من الأصوات الذى وضعها فى الترتيب الخامس من بين أكثر من 1500 مرشح فى المدينة. عزز هذا النجاح الساحق مكانتها، ليس كمنافس قوى يحسب له حساب فقط، بل أيضا كمصدر للأمل للمهمشين والمستبعدين من الفقراء وسكان “فافيلا” والسود والنساء ومن لا صوت لهم فى البلاد.إستخدمت “فرانكو” منصتها الجديدة كعضو فى مجلس المدينة فى متابعة التحقيقات الجارية والتنديد بالفوارق الاجتماعية وشاركت فى تنظيم عدد من الفعاليات الاحتجاجية ضد عنف الشرطة الذي يتعرض له سكان المدينة من الفقراء والسود، وقبل أيام من اغتيالها ذهبت إلى حى “أكاري” الفقير على أطراف المدينة للتضامن مع احتجاجات ضد عمليات القتل الأخيرة التي ارتكبتها إحدى كتائب الشرطة بحق عدد من السكان. كانت “مارييل فرانكو” -38 عاما- قد قتلت مساء 14 مارس من العام الماضى، عقب مغادرتها لمؤتمر للنساء السود ودورهن فى تغيير السلطة، عندما هاجم قتلة محترفون سيارتها فى أحد شوارع “ريودى جانيرو”، وأمطروها بتسع رصاصات، أصابتها منهن أربعة فى الرأس، كما قتل فى الجريمة سائق سيارتها “أندرياس بيدرو جوميز”-38 عاما. وقالت الشرطة أن القتلة راقبوا خط سيرها، كلنوا يعرفون موعد خروجها، وكانوا يعرفون –بالضبط- أين تجلس فى سيارتها التى يحجب زجاجها الرؤية من الخارج، ما يؤكد على أن الحادث هو جريمة اغتيال سياسية خطط لها مسبقا. حدثت الجريمة بعد شهر واحد من طلب الرئيس السابق “ميشيل تامر” من الجيش النزول لحفظ الأمن فى المدينة، وكانت تلك هى المرة الأولى التى ينزل فيها الجيش  إلى المدن الكبرى منذ سقط النظام العسكرى الذى كان يحكم البلاد فى عام 1985م.

هز مقتل السياسية الشابة البرازيل التى تعانى منذ سنوات من ركود اقتصادى متواصل، ومن فضائح الفساد التى طالت كبار رجال الدولة، ومن العنف المتصاعد بين الميليشيات المسلحة وعصابات المخدرات وأجهزة الأمن، ومن أزمات سياسية لا يبدو أن لها نهاية قريبة. وكانت “فرانكو” قد نددت بشدة بالتدخل العسكري، وهاجمت استخدام قوات الجيش والشرطة للعنف المفرط مع السكان المحليين خصوصا فى الأحياء الفقيرة، وتم انتخابها مؤخرا لرئاسة لجنة للتحقيق في انتهاك قوات الجيش والشرطة لحقوق الإنسان. كثيرون كانوا يرغبون فى موتها، وقائمة المشتبه بهم طويلة، وما يجعل من تحديد القاتل مهمة صعبة هو شجاعتها وإخلاصها النادر لما تؤمن به، كانت تمثل تهديداًحقيقيا لشبكات الفساد والجريمة المنظمة، وللكثيرين من الأفراد والأحزاب المنافسة، لكنها تحولت إلى مصدر للإلهام لدى كثير من الشباب والنساء بعد تبنيها مؤخرا لعدد من الأطفال الفقراء. فى يوم وداعها خرج عشرات الآلاف من الناس إلى شوارع المدن الكبرى للتعبير عن حزنهم لفقدان هذا الرمز النادر للأمل، ولتسجيل اشمئزازهم وغضبهم من الجناة الحقيقيين، وكتبت ابنتها “لويارا” البالغة من العمر 19 عاماً على حسابها على تويتر:” لا يقتصر الأمر على قتل أمى فحسب، لكنهم أيضاً قتلوا ناخبيها البالغ عددهم 46000″ وقالت: نريد أن نتأكد من أن قتلها لن يمر دون حساب!

من قتل مارييل فرانكو فى البرازيل، هو من قتل شيماء الصباغ فى مصر، إنها نفس الطبقة السياسية والاقتصادية التى تحكم البلاد بالفساد والعنف وعدم المساواة والفقر المدمر للحياة، لكن الرصاص لن يمنع الشمس من الشروق وحيثما وجد الفقر والتمييز وعدم المساواة ستظهر شيماء الصباغ ومارييل فرانكو من جديد.

Exit mobile version