الرئيسية » مقالات » عبدالناصر إسماعيل يكتب: الدولة تواجه غشا زائدا عن الحاجة!

عبدالناصر إسماعيل يكتب: الدولة تواجه غشا زائدا عن الحاجة!

تبدو الصورة الأولية أمام الجميع أن الدولة ممثلة في وزارة التربية والتعليم تحاول محاربة ظاهرة الغش التي تفشت كالوباء في المجتمع، وتحاول أن تصدر القرارات الوزارية أو تستحدث طرق مبتكرة لمواجهتها، وتحاول أيضا ارتداء ثوب العدالة عندما تعاقب من يقومون بالغش أو يسهلونه داخل اللجان أو خارجها، وأحيانا تجد دعما لموقفها بقرارات رئاسية لها قوة القانون لمنع الغش، ولإضافة بعض الرتوش النهائية تستعين بالجهاز الأمنى أمعانا في دعم الصورة الذهنية لدى المواطنين حول الدولة القوية التي تقف بالمرصاد لكل من تسول له نفسه خرق النظام العام أو الغش في الامتحان، وعندما تهتز هذه الصورة مع كل اختراق للقواعد المتبعة في الامتحان، تتجرأ وتهرب للأمام لتدعى أن المشكلة هي مواقع التواصل الاجتماعى، ليكون الناس في النهاية هم أصل كل شر في المجتمع هم سبب الغش وهم من يتفنون فيه وهم سبب الفساد، أما من يرسمون السياسات فهم طاهرون من كل ذنب.

حقيقة الأمر إن الغش أصبح جزء من بنية العملية التعليمية لا تستطيع وزارة التربية والتعليم الاستغناء عنه فهو يقلل من درجة تركز التعفن والفساد الموجود في القمة بتوزيعه على مساحة أكبر (معلمين، مراكز دروس خصوصية، لجان امتحان حسب المقاس، كنترولات، منازل. إلخ) بمنطق أن الشراكة في الفساد يضمن استمراره، كما يقلل من سرعة وصدمة الانهيار السريع لمنظومة تعليم فاشلة ويغطى كقنبلة دخان على إنسحاب الدولة الكبير من ملف التعليم وهذا هو الإخطر، وهي تريد إلا تتضح حقيقة ما يحدث للجميع لذا تتعامل مع الغش بطريقة المواد الحافظة، فكما أن المواد الحافظة ضرورية الاستخدام في المواد الغذائية لمنعها من التلف أو التحلل مع مراعاة أن زيادة نسبة المواد الحافظة عن النسب المسموح بها في المأكولات والمشروبات قد يؤدى إلى التسمم أو الوفاة على المدى البعيد فكذلك تتعامل وزارة التربية والتعليم مع الغش حيث تعتبره ضرورة لمنع منظومة التعليم من التحلل.

فهى تؤسس للغش (المسموح به) وتعتبره ضرورة تخفى وراءه عجزها الكامل وعدم قدرتها تحمل فكرة وجود تعليم أفضل وأكثر جودة نظرا لتكلفته المالية والاجتماعية والسياسية، لذا فقد سمحوا قانونا في المرحلة الإبتدائية بإن ينتقل الطالب الذي يرسب عامين متتاليين للصف الأعلى آليا (يرسب مرتين يتحول إلى ناجح بحكم القانون)، وسنويا تقوم بالتغيير في نسب النجاح في الشهادات العامة حيث لا تسمح أن تقل النسبة في جميع الاحوال والظروف عما يقرب من 70% نسبة نجاح في الدور الأول لترتفع في الدور الثانى إلى ما يقرب من 99%.

وإذا تراجعت نسبة النجاح عما تريده القيادات في المديريات التعليمية تطلب إعادة النتيجة ورفعها لنسبة تحددها القيادات التنفيذية والتعليمية، وهم نفس القيادات أصحاب الكرفتات الشيك الذين يخرجون علينا ليتباهوا بنسب النجاح، وهم أنفسهم الذين يدفعون الحلقات الوسيطة(مشرفى المواد ومديرى الإدارات) للضغط على المعلمين لرفع درجات الطالب في ورقة الأجابة حتى إن بعض المعلمين تجدهم يمسك القلم الأحمر في يد ويمسك القلم الأزرق في اليد الأخرى.

رويدا رويدا تتحول السياسات إلى أساليب حياة فتجد أن الغش تحول إلى حق تمارسه القيادات دون أن تفصح عن هذا ويدافع عنه طلاب ومعلمين وأولياء أمور بمنطق أن الغش أصبح آلية للمساواة بين الكبار والصغار، فعندما تنتهك قواعد اللعبة من قبل اللاعبين الأساسين لا تسأل كيف يسجل الجمهور هدفا؟

عمليا إذا نكتشف إن الدولة لا تحارب الغش اجمالا أو تحاول اجتثاثه والقضاء عليه لكنها تحارب فقط النسب المرتفعة لمستويات الغش في المجتمع، ، فهى تدرك جيدا أن الغش ضرورة لمنع المنظومة من الانهيار التام لكن زيادته عن الحد المسموح به وخروجه عن قواعد اللعبة وتحوله إلى ظاهرة شعبية، سيؤدى إلى مخاطر على المستوى الاجتماعى وظهور الدولة بمظهر الرجل المريض الذي يتقاسمه الفساد المنتشر حوله، وقد تؤدى زيادة نسب الغش إلى أخطر من هذا إلى كشف مدى هشاشة البنية الأخلاقية للمجتمع ومدى ضعف الدولة.

هنا نطرح السؤال الغائب وهو لماذا أصبح الغش شعبيا في الثانوية العامة؟ وما الذي أدى إلى زيادة نسبة الغش عن عما هو مسموح به؟ الإجابة ببساطة تضاهى بساطة تسريب الامتحانات وبعيدا عن السياسات التعليمية الفاشلة هو تحول الثانوية العامة إلى تورتة كبيرة للفساد جاهزة للأكل ومتجددة سنويا، حيث تقدر فاتورة الدروس الخصوصية بمليارات الجنيهات، وهو نهر من الأموال أصبح هدفا للطامعين والفاسدين.

كما أنه فتح شهية الفاسدين الصغار الذين ظلوا لسنوات يراقبون سوق الثانوية العامة ويسمعون عن لجان خاصة للكبار والنفاذين وأصحاب المال والسلطة يتم إعدادها بملاحظيها ومراقبيها من المعلمين الذين يحصلون على جانب من التورتة، ويسمعون عن أوراق الكنترول التي يتم التلاعب فيها لصالح أبناء هؤلاء الكبار، ويسمعون عن الأموال التي تدفع نظير هذا، وبالطبع لم يتخاذل بعض الضعاف ممن يعملون على طبع الورقة الامتحانية أو توصيلها للجان أو الذين يراقبونها عن المشاركة في ألتهام جزء من التورتة، وبدأت الأوراق تصل إلى أصحاب مراكز الدروس الخصوصية.

وبدأ ينتشر أن هذا المعلم العبقرى توقع سؤال بالنص ورد في الامتحان، أو أن هذا المعلم لديه القدرة على توقع الامتحان، حتى إن أحدهم طبع مؤخرا الامتحان بحل نموذجى ووزعه على الطلاب كنوع من العبقرية، وآخر عقد المراجعة النهائية في آستاد رياضى، وهذا يعنى بالطبع ملايين الجنيهات التي تتدفق ليلة الامتحان على الشركاء في تورتة الفساد.فنحن نلحظ تزايد أعداد المتصارعين على التورته، مع ملاحظة إن كل هذا مقرون بالغش فقط في طريق ذهاب ورقة الامتحان للجان الامتحان، أما في طريق العودة الميمونة لأوراق الإجابة للكنترولات وما يتم تداوله من أخبار فحدث ولا حرج فطريق العودة مسار آخر لنهر من الفساد يتدفق.

ومن الطبيعى أن تهدد الزيادة في نسب الغش عن الحد المسموح به ليس فقط المنظومة نفسها بل تهدد الفاسدين الكبار الذين ظنوا أنهم سيبقون للأبد داخل الملعب ممسكين بشروط اللعبة وقواعدها، لذا كان من الطبيعى أيضا أن تدعى وزارة التربية والتعليم محاربة الغش، لكن خلف الستار نجد قيادات – بإختلاف ألوان الكرفتات الشيك التي يرتدونها – يحددون نسب الغش سنويا بطرق كثيرة بعضها قانونى وبعضها غير معلن(شفهيا).

بعد كل هذا إذا تأملنا خلفية المشهد نجد منظومة من القيم بدأت تتساقط سريعا ولم تعد الثانوية العامة بعبع سوى للبسطاء والشرفاء والذين ما زالوا يحملون داخلهم بعضا من قيم نبيلة تحفظ هذا الوطن وتمنعه من السقوط.

ومن المحزن أن نقول إذا ظلت سياسة التعليم في مصر تتعامل مع الغش داخل منظومة التعليم بمنطق المواد الحافظة أو تدعى منعه ظاهريا وتمارسه في الخفاء كنوع من التضليل، فأننا سنشهد تحلل كامل لمجتمعنا ولمنظومة قيمه، وليس لدينا الكثير من الوقت والرفاهية لوضع ملف التعليم جانبا، فشعبنا يستحق منظومة تعليم بلا مواد حافظة لتبقى روحه وقيمه باقية وملهمة للأبد.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.