الرئيسية » مقالات » دانيال كاى قرصان للإيجار
دانيال كاي

دانيال كاى قرصان للإيجار

كتب الدكتور عبد الهادي محمد عبد الهادي

في فبراير 2017 ألقت السلطات البريطانية القبض على “دانيال كاي” في مطار “لوتون” بلندن، للاشتباه في قيامه بتنفيذ هجمات إلكترونية ضد ثلاثة بنوك بريطانية، وكذلك تعطيل خدمة الهاتف المحمول والإنترنت في ليبيريا.

كان خبراء وكالة مكافحة الجريمة في المملكة المتحدة قد اشتبهوا بضلوعه في تنفيذ الهجمات ضد المواقع الإلكترونية لبنوك “لويدز” و”باركليز” و”هاليفاكس”. أطلق القرصان شفرة خبيثة على هذه المواقع، وطلب فدية مالية من أجل وقف الهجوم، ورغم شكاوى العملاء من بطء العمليات على المواقع، فالبنوك الثلاثة لم تدفع الفدية المطلوبة، وفضلت أن تنفق أكثر من 300 ألف دولار أمريكي لصد الهجمات وتطوير نظم تأمين مواقعها.

“دانيال كاي” هو قرصان إسرائيلي بريطاني مزدوج الجنسية، ولد في الأرض المحتلة عام 1988، ولا نعرف أين درس، وما إذا كان قد التحق بالجيش الإسرائيلي، ومتى كان ذلك، لكنه علّم نفسه البرمجة وعلوم الحاسب، وبدأ في عرض مهاراته على شبكة الإنترنت المظلمة، والتي تعتبر سوقا سوداء للقراصنة توفر خدماتها للشركات والأفراد في استهداف المنافسين وإلحاق الضرر بهم.
وفقا للوكالة، كان دانيال قد تعاقد مع المدير التنفيذي لشركة “سيلكوم ليبيريا” لتنفيذ هجمات متواصلة ضد شركة “لونستار” المنافسة. ويذكر أن لونستار، وهي شركة تابعة لمجموعة شركات “إم تي إن” ومقرها جنوب إفريقيا، وهي المزود الرئيسي لخدمات الإنترنت والهاتف المحمول في ليبيريا وغينيا وسيراليون، أما شركة سيلكوم ليبيريا، فهي إحدى شركات مجمموعة “إل. آر. جروب المحدودة” الإسرائيلية. وعندما ألقي القبض عليه عثر بحوزته على مبلغ 10000 دولار أمريكي نقدا، وطبقا للوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة، كانت هذه الأموال جزءا من المدفوعات التي تلقاها في مقابل تنفيذ هجماته ضد شركة لونستار.

شن دانيال هجماته باستخدام روبوتات تدعمها شفرة “ميراي”، وهي سلالة من البرمجيات الخبيثة التي تسخر أجهزة التوجيه “راوترز” أو الكاميرات ضعيفة التأمين أو أجهزة إنترنت الأشياء (IoT) في تنفيذ هجمات واسعة النطاق؛ بهدف تعطيل الخدمة.

كان دانيال واحدا ممن قاموا بتنزيل الكود المصدري لشفرة ميراي عندما أتيح على الإنترنت لأول مرة، ونشرت “مدونة كريبس أون سيكيوريتي” تقريرا أشارت فيه إلى أنه استأجر روبوتا أطلق عليه (ميراى#14) واستخدمه في اختراق عدد كبير من كاميرات “داهاو” -الصينية الصنع- والتي تستخدم علي نطاق واسع في تأمين المنازل والشركات في جميع أنحاء العالم. كان يعيش في قبرص، ويتحكم في الروبوتات بواسطة هاتفه المحمول، وبناء على أوامره، بدأت مئات الآلاف من كاميرات الويب تطلب البيانات من خوادم شركة لونستار.

في ذلك الوقت، كان الإنترنت في ليبيريا يعتمد على كابل أطلسي محدود وعدد قليل من مقدمي الخدمة، على عكس الحال في أوروبا، حيث يمكن للمستخدمين الوصول إلى الإنترنت من خلال عدد من طرق الاتصال المختلفة. أغرق دانيال خوادم لونستار بعدد هائل من الأوامر والطلبات، ما أدى لبطء خدمة الإنترنت، ثم انهيارها بشكل كامل في يومي 3 و 4 نوفمبر 2016 في كل أنحاء البلاد.
وفي محاولة لزيادة شدة هجماته سعي لاختطاف وتسخير مئات الآلاف من أجهزة التوجيه التابعة لشركة الاتصالات الألمانية دويتشه تيليكوم، فأصدرت السلطات الألمانية مذكرة اعتقال بحقه، وطلبت من المملكة المتحدة تسليمه لمحاكمته بتهمة استخدام الآلاف من أجهزة التوجيه التابعة لشركة الاتصالات الألمانية العملاقة ومنع الاتصالات عن حوالي 900 ألف ألماني، وتعطيل خدمة الإنترنت، بما في ذلك محطة الاتصالات الرئيسية في مدينة “كولون”.

اتهم دانيال بتنفيذ الهجمات لأن الروبوتات الخاصة به استخدمت في العملية، لكنه قال للمحققين إنه كان قد أعارها لشخص آخر بمقابل مالي، عبر سوق الإنترنت المظلمة، وقال كنت أبحث عن أي أجهزة يمكن استغلالها، وتصادف أنها كانت أجهزة توجيه دويتشه تيليكوم”.

فهِم المحققون الألمان أن دويتشه تيليكوم كان مجرد وسيلة استخدمها القرصان الذي اعترف بأنه مذنب في الهجوم على شركة الهاتف الإفريقية ومنع الوصول إلي الإنترنت في جزء كبير من البلاد، وأنه تلقى أموالاً مقابل شن الهجمات ليتمكن من بدء حياة جديدة مع خطيبته البريطانية، وأن الحادث كان أكبر خطأ ارتكبه في حياته.
قال ممثلو الادعاء إنه لم يستخدم روبوته في الهجوم، وأنه كان قد أجّر حق استخدامه في مقابل مبلغ مالي لم يكشف عن قيمته، وقال محاميه إن سرعة الإنترنت في ليبيريا كانت محدودة، بصرف النظر عن هجوم دانيال، وكل ما حدث أنها أصبحت أكثر بطئًا، وأنه من غير المقبول اعتبار الهجوم تهديدًا مباشرًا لليبيريا، وأن موكله لا يعترف بالخسائر التي تقول شركة “لونستار” أنها تكبدتها من جراء الهجوم.

في النهاية أصدرت محكمة في كولون عليه حكما بالسجن لمدة 20 شهرا مع وقف التنفيذ، حسبما نشرت وكالة الأنباء الفرنسية “فرانس برس”.
ولأن القانون البريطاني يسمح بمحاكمة مجرمي الإنترنت على الجرائم التي ارتكبوها في أي مكان في العالم، قامت السلطات الألمانية بتسليمه إلى المملكة المتحدة لمواجهة تهم أخرى.

وقال “مايك هوليت”، رئيس وحدة جرائم الإنترنت إن “دانيال” واحد من أهم مجرمي الإنترنت الذين تم القبض عليهم في بريطانيا، وصرح لهيئة الإذاعة البريطانية بأنه “لم يسبق لأي قرصان أن يعطل شبكة الإنترنت في دولة بأكملها، من خلال هجوم واحد”.

تمكن دانيال من تعطيل الاتصالات في نحو 100 ألف جهاز توجيه تابعة لمزودي الخدمة الثلاثة في المملكة المتحدة: هيئة البريد البريطانية و”توك توك” و”ك كوم”، وتتبع المحققون سلسلة من القرائن الرقمية التي خلفها وراءه ليكتشفوا أنه استخدم ثلاثة أسماء مستعارة هي: “بيست باى” و” سبايدر مان” و” بوبوبرت”، واكتشف المحققون وجود رابط بين صاحب هذه الأسماء وبرنامج تجسس يعرف باسم “جوفرات” تم التحقق من استخدامه في الكثير من حملات التجسس ضد الحكومات والمؤسسات المالية وأكثر من 100 شركة أخرى.

في شهادة مكتوبة أرسل بها إلى المحكمة، قال الرئيس التنفيذي السابق للونستار “إن جريمة كاي كانت مدمرة، والهجمات التي شنها عطلت الاتصالات بين عملاء الشركة، وحرمتهم من التواصل والقيام بأنشطتهم التجارية اليومية، الأمر الذي أدى إلى تحول عدد كبير من العملاء إلى الشركات المنافسة، كانت الإيرادات السنوية للشركة قد تجاوزت 80 مليون دولار، وانخفضت بعد الهجمات إلى 17 مليون دولار”.

وقال دانيال: “لم أكن أريد مهاجمة ليبيريا”، فقط “أردت أن أسقط شبكة لونستار الخلوية”، وعندما سئل عن السبب، رد بأن شركة منافسة قد عينته وكلفته بهذه المهمة.

وفي يناير الماضي، أصدرت محكمة في لندن حكمًا على دانيال بالسجن لمدة 32 شهرًا لاختراق وتحطيم أجزاء من شبكة شركة “لونستار” في ليبيريا.
هل انتهت قصته إلى ذلك؟ ليس بعد.
لماذا فعل دانيال ذلك؟
ولصالح من؟
وما المقابل؟
ولماذا بكى وهو يستمع إلى الحكم؟

وفقا لتقرير نشرته صحيفة “هآرتس” في اليوم الأول من العام الجاري، قال دانيال أثناء محاكمته الأولى في ألمانيا إن الإسرائيلي “أفيخاي مارسيانو”، المدير التنفيذي لشركة “سيلكوم ليبيريا” هو من كلفه بتنفيذ الهجوم، وذكرت الصحيفة أن ثلاثة من الطيارين السابقين في الجيش الإسرائيلي على صلة وثيقة بالهجمات التي أثارت الذعر في العالم. وقالت الصحيفة إنه تجري تحقيقات دولية حول توظيف دانيال بأجر 10000 دولار شهريًا في شركة تسمى “أنجولا- تو”- ومقرها أنجولا، وذلك للقيام بهجمات إلكترونية متواصلة، ضد شركة لونستار بهدف تعطيلها وإخراجها من حلبة المنافسة، وذكرت أن “أنجولا- تو” هي إحدى شركات مجموعة “إل آر جروب المحدودة”، التي تتبعها شركة “سيلكوم ليبيريا” أيضا.

كانت مجموعة “إل. آر. جروب المحدودة” إمبراطورية تجارية غامضة تأسست في منتصف الثمانينات بشراكة بين ثلاثة طيارين سابقين في الجيش الإسرائيلي هم: روي بن يامي، عامي لوستيج، وإيتان ستيفا.
كانت المجموعة ذراعًا لإسرائيل في غرب إفريقيا، فعملت في أنجولا وليبيريا وغينيا وسيراليون الكونجو وغانا ونيجيريا وأخيرا في تشاد، وتدخلت في الحرب الأهلية الأنجولية التي استمرت لأكثر من 27 عاما، وفي غيرها من الحروب الإفريقية، حيث ربحت ملايين الدولارات من تجارة السلاح والبشر، وعندما خرج أحدهم ليؤسس شركته الخاصة عام 2011، ظلت المجموعة تحت سيطرة روي بن يامي، وعامي لوستيج.

يقول مصدر مقرب من شركة لونستار إن الهجمات بدأت منذ نهاية 2015، واستمرت حتى فبراير 2017، أي أنها استغرقت أكثر من عام، وفي أقل التقديرات بضعة أشهر.
إن توقيت الهجمات ومدتها أمر بالغ الأهمية ذلك لأنها استمرت بعد الإعلان عن بيع “سيلكوم ليبيريا” إلي شركة “أورنج”، ما يعني أن الهجمات استمرت حتى بعد بيع الشركة المستفيدة، وفي ظل مدير تنفيذي جديد عينته شركة “إل. آر. جروب”، بعد استقالة “مارسيانو” المشتبه في تورطه بالهجمات، وتعيين مدير تنفيذي إسرائيلي آخر.

المجهولون الثلاثة
كان الثلاثة قد درسوا، وتدربوا معا في أكاديمية الطيران، وعملوا طيارين في سلاح الجو الإسرائيلى، وبدأوا العمل في غرب إفريقيا، منذ منتصف الثمانينيات، وكانت أنجولا الدولة الغنية بالنفط والذهب والألماس والأراضي الخصبة يعيش معظم سكانها في فقر شديد بسبب الحرب الأهلية الطويلة وتدخل الدول الأجنبية في صراعاتها المحلية بما فيها إسرائيل.

روى بن يامى- يمين، عامى لوستيج يسار الصورة

انخرطت “إل. آر. جروب” في تصدير السلاح لأنجولا، وأسهمت على نطاق واسع ولسنوات طويلة في إمداد الحكومة بالأسلحة وتدريب قوات الأمن والجيش.

ووفقًا لتقرير “هآرتس” باعت الشركة لأنجولا طائرات سوخوي 27 المقاتلة وقذائف المدفعية والأسلحة الخفيفة، وأسهمت في بناء المطارات وأنظمة التأمين، وفي شراء طائرات لـ”جوزيه إدواردو دوس سانتوس”، الرئيس الذي حكم أنجولا لمدة 38 عامًا، وعزا بعض المحللين انتصاره في الحرب الأهلية إلى تفوق قواته الجوية التي أسهمت فيها المجموعة الإسرائيلية بالنصيب الأكبر.
بعد انتهاء الحرب الأهلية الأنجولية في 2002، اقتحمت المجموعة المجالات المدنية، دخلوا في مشروعات البنية التحتية والزراعة والتكنولوجيا، وأقاموا العشرات من المجتمعات الزراعية والمدارس الداخلية الزراعية، وأقاموا المزارع والحظائر وشبكات تنقية المياه والعيادات الطبية، ودعموا دور الأيتام، وأقاموا مستشفى في أوكرانيا، ومؤخراً عقدوا اتفاقا لتدريب فريق طبي في الصين.

ويقول موقع المجموعة على الإنترنت إنها توظف حوالي 2000 شخص في جميع أنحاء العالم، وحسبما صرح به مصدر مطلع للصحيفة، كان لدى المجموعة على مدار سنوات شركات خلوية في ليبيريا وغينيا وسيراليون، ويبدو أن هذا الثلاثي من بين أغنى الناس في إسرائيل، ويقدر المصدر ثروة الواحد منهم بمليار دولار، وربما تزيد!

أصدرت مجموعة “إل. آر. جروب” بيانًا نفت فيه أي علاقة لها بالهجوم ضد لونستار، وقالت إن الهجمات حدثت بعد بيعها لشركة سيلكوم ليبيريا: “نحن ندين بشدة أي سلوك عدواني على شبكة الإنترنت، ونحرص دائمًا على أن مديري الشركة والموظفين الذين ينتمون إلى المجموعة لا يعملون إلا في إطار القوانين المحلية والدولية المنظمة”!
نادرًا ما يتم التعرف على المجرمين الحقيقيين، في مثل هذه الجرائم أو تقديمهم للعدالة.

في الواجهة يبدو دانيال كاي قرصانًا للإيجار، وخلف الستار إمبراطورية تجارية غامضة أسسها ثلاثة من أثرياء الحرب المجهولين، الذين تاجروا في السلاح وفي البشر وفي الهواء، وفي حدود علمنا، لم يتم توجيه تهمة ما ضد أيٍ من هؤلاء، وربما لن يحدث أبدًا.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.