الرئيسية » مقالات » ” عم سيد عبد الوهاب ندا”؟

” عم سيد عبد الوهاب ندا”؟

كتب – سمير الأمير:

منذ أسبوع تقريبا مرت الذكرى الأولى لرحيل ” عم سيد ندا” العامل المثقف الذى ظل حتى قضى نحبه مؤمنا ببلاده وحالما بتقدمها وازدهارها ، لا تشوب إيمانه شائبة ولا تنغص قناعاته بأن الغد أجمل كل تقلبات الثقافة والسياسة ، ذات مرة سأله صحفى عن سر تفاؤله فقال ” كنت أحصل على 3 مليمات فى أيام الملك الآن أحصل على معاش 3 آلاف جنيها”، طبعا لم يغب عن ” عم سيد ندا” الفرق بين الأسعار قى الحالتين لكنه بأى حال لم يكن من السوداويين الذين يعيشون فى الماضى ويضفون عليه ما لم يكن فيه.

كان عم سيد ندا مؤمنا أن الحياة متجددة وخضراء أن النظريات كئيبة وجامدة ، وكان أكثر ما يؤلمه هو انحسار دور الطبقة العاملة فى المجتمع بعد أن استغفر أنور السادات للأمريكان والصهاينة عن كل نضال المصريين ضدهم ، كما استغفر للإقطاع فى الداخل عن الإصلاح الزراعى ، وأطلق جيوش الإسلاماويين على الثقافة المصرية بعد ان أهان الكتاب والمثقفين ونقلهم من صحف الأهرام والأخبار إلى شركات صيدناوى وبنزيون وعمر أفندى والصرف الصحى أيضا.

كنا فى كل عام نحج مرة أو مرتين لشقته -الصغيرة حجما والرحيبة ألفة ومودة وكرما- الكائنة في قلب حي الوايلي، نقطع المسافة من محطة الأتوبيس إليها سيرا على الأقدام عبر شوارع ودهاليز لا تتسع إلا للدرجات والتكاتك – لنلبى دعوته لتناول طعام الغذاء حيث نجلس متلاصقين بينما تقوم السيدة ” عايدة” زوجته الكريمة بتقديم أطباقها المصرية الشعبية التي لا يضاهيها احد في صنعها ويدور النقاش بين أصدقاء عم” سيد ندا” فى السياسة والصحافة والأدب، كنا اشتراكيين من مشارب مختلفة، منا من يرى فى ثورة يوليو حلقة من حلقات الثورة الوطنية الديموقراطية ومنا من يرى أنها انقلاب أجهض التطور الطبيعى لليبرالية الأربعينيات والخمسينيات التى كانت من وجهة نظرهم ستحقق تقدما أوقفه ما “أسموه” انقلاب يوليو، كنا نصمت جميعا حين يشرع “عم سيد ندا” فى الكلام، إذ لم يكن بيننا من سبر غور النضال اليسارى والعمالى مثله، فقد دخل سجون العهدين الملكى والجمهورى وشارك فى تأسيس اللجنة الوطنية للطلبة والعمال سنة 1946 واتسمت حكاياته بأنها من لحم ودم وليست من قراءات فى النظريات السياسية وفقط، وكان علينا أن نصغى لصوته الهادئ الحكيم مأخوذين بسحر تخيل المبانى والبشر فى قاهرة الأربعينيات والخمسينيات التى لم نرها.

فى بيته ومن خلال أحاديثه اكتشفت أن جيلنا سجن الواقع المصرى فى الأفكار النظرية التى نمت فى مجتمعات أخرى فأصبحنا عاجزين عن اكتشاف المسارات الخاصة لحركة الحياة فى بلادنا، كان “عم سيد” يأخذنا ليرينا تلك الأيام التى لم نعشها ببراعة حكيه وهدوء نبرته التى لم يؤثر فيها ضجيج وحدة نقاشاتنا، لم يكن يوجه لوما لأحد بسبب اعتراضه على ما يقوله، فقد كانت ” عزومة الغذاء” تضم أصدقاء من جيله، لكنه كان يرد بأدب الكريم صاحب البيت، هذا البيت الذى أكد لى صحة المثل الشعبى الذى يقول “البركه فى السكان مش فى المكان”.

كان الخجل من تعصبى لرأيى ينتابنى حين ينظر فى عينى بهدوء وجدية فأشعر أن عينيه نافذتان على عالم لم أره من قبل وكأنى أرى صورا وأحداثا ولا أسمع كلاما، وحين ينتهى ويبدأ أحد الضيوف فى الحديث أقلب عينى فى المكان فأرى علب الدواء فى أكياس شفافة تتدلى من مقبض الشباك الوحيد لتخبرنى أن الرجل الذى جاوز الخامسة والثمانين ( حينها) يعانى من مشاكل صحية عديدة، فأتعجب كيف لا يشير إليها ولا حتى بشكل عابر فى ثنايا حديثه !، تماما مثلما يتحدث عن مرات سجنه وتعذيبه كحوادث عارضة وطبيعية، حكي لنا أنه قبل ثورة يوليو كانت هناك عقوبات بدنية للعمال في اللائحة الرسمية للتشغيل.. حكى ذلك ببساطة وبدون أدنى محاولة لإثارة دهشتنا فقد كان يتحدث عن لائحة عقوبات تشمل الجلد!

وسجنه نظام يوليو فانتقد ناصر لكنه لم يكرهه لأنه ” طبقا لعم سيد” أدرك أهمية التصنيع، وفى عهده نمت الطبقة العامة نموا غير مسبوق وشارك العمال فى الأرباح،
لم يكن العم ” سيد ندا ” إذن يقّيم النظم السياسية فى ضوء مصيره الشخصى تماما كما فعل الشاعر” فؤاد حداد ” ولم لا؟ وقد كان” عم سيد ندا ” قطعة من الإنسانية، وكان مصدقا لما بين يديه وما بين أيدى المكافحين من أجل العمال والفقراء فى مصر والعالم، فأية كتابة تليق بجلال نضال ” عم سيد ندا، وهل تنسى مصر أبناءها الذين أشعلوا أحلام الاستقلال والعدالة والحرية.

عندى يقين يا ” عم سيد ” أنه سيأتى اليوم الذى تتحقق فيه أهداف كفاحك العظيم وساعتها سيحتفى بك- و” بعم عطية الصيرفى ” العامل المفكر ” و بالشيخ عراقى ” الفلاح الفصيح “-أبناء مصر حفاوة تليق بسعيكم النبيل الذى أعلى محبة البلاد والعباد فوق الجراحات الشخصية ، فكبرتم حين خرجتم من ” حدود الذات” إلى آفاق ذاتنا الأكبر مصر التى عشقتموها وكافحتم من أجل عمالها وفلاحيها.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.