لن نقع في فخ المبالغة إذا قلنا الانتفاضة العراقية الباسلة التي انطلقت في أول أكتوبر من العام المنصرم ولا تزال تقاوم، هي الواقع الأكثر جذرية في تاريخ العراق المعاصر، والتي رفعت شعارات تنادي بالاستقلال والسيادة على الأرض والثروة، إنها المصباح الذي أنار الطريق أمام الجماهير بعد سنوات ظلمة داجية.
انتفاضة الأغلبية الشعبية الكادحة من الجنوب امتدت لتشمل جُلَّ المدن العراقية، والتي انفجرت تحت ضغط واقعها المعيشي الذي يتخطى في حدوده أكثر البلدان فقرًا، على الرغم من أن العراق يحتوي على ثروات طبيعية وبشرية تجعله من أغنى دول العالم!
فمثلاً عوائد قطاع النفط وحده، تزيد عن ستة مليارات دولار شهريًا؛ لذا فعندما تكون حياة المواطن العراقي مسحوقة تحت عجلات مشروع “بريمر” بكل مكوناته السياسية، ولا تتوفر أبسط مقومات الحياة من احتياجات أساسية وضروريات معيشية، وعندما تكون مؤسسات الخدمة العامة “تعليم وصحة وماء وكهرباء ومواصلات” في حالة انهيار كامل، وعندما تنزل بهذا المواطن المسحوق الشدائد وتعتصره إكراهات الواقع الاجتماعي، بشقيه “الاحتلال – الطائفية”، فنحن إذن أمام وضع اكتملت شروطه التاريخية للإسقاط: وطن محتل وصراعات طائفية وقومية، وحياة بؤس يعيشها الأغلبية الساحقة من المجتمع، ضد هذا الوضع، وضع المواطن العراقي الذي يوحي بأنه خارج التاريخ ــ بالرغم من تاريخيته ــ وضد كل مشاريع استعبادها واستغلالها ونهب ثرواتها، انتفضت الجماهير العراقية.
كانت آلام المواطن العراقي التي تفجرت في الميادين والساحات كأنها آلام ألف سنة تتفجر، وتجسدت في واقع تحركاته الثورية الجسورة، هي بوصلة المقاومة الحقيقية ضد مشاريع الاستغلال بكل تمظهراتها.
وفي الجملة، فإن انتفاضة تشرين كانت بمثابة هبة شعبية جارفة من الحماس والآمال العامة، مطبوعة ومدفوعة بروح “وطنية – طبقية” أصيلة، وتصوب نحو مركز المعضلات، وفي العمق، وفي الأسس التي انبنى عليها صرح الخراب الراهن للمجتمع العراقي.
الانتفاضة التي خلفت خلال مسيرتها منذ أكتوبر وحتى الآن مئات الشهداء وآلاف الجرحى، فكانت هي التجسيد العصري لملحمة جلجامش؛ فإن كان جلجامش الذي نهشه الخوف من مصير رفيق دربه “أنكيدو” قد خاض غمار ملحمته بحثًا عن نبتة الخلود، فإن الكادح العراقي الذي نهشه وسحقه الواقع الاجتماعي يخوض غمار ملحمته بحثا عن نبتة التحرر!
لم يخرج العراقيون أو يحركهم سفارات أو أجندات خارجية كما يروج مدمنو “التفسير البوليسي للتاريخ” بل خرج العراقيون ضد السفارات وضد كل الأجندات الخارجية، فرفعوا شعارات حددت في جوهرها الحاجات المباشرة للواقع العراقي، وهي إنهاء التواجد الأجنبي بكل أشكاله، والذي تسبب في تخريب وتدمير حياة الأغلبية من الشعب، فكان إرهاب السلطة والمليشيات، وفي الأخير إقدام الإدارة الأمريكية على تنفيذ عملية اغتيال قاسم سليماني ومعه نائب رئيس الحشد الشعبي، كانت كلها محاولات من أجل فك الحصار الذي ضربته الانتفاضة على كل شركاء العملية السياسية، مما تسبب في تسعير حدة التوترات بينهم تحت ضغط وتأثير الانتفاضة وليس العكس.
إن زلزال اغتيال الجنرال “قاسم سليماني” الذي هز منطقة الشرق الأوسط والعالم خلال الأيام القليلة الماضية، جراء العملية التي نفذتها القوات الأمريكية بالقرب من مطار بغداد، لم يخرج عن الإطار السابق ذكره، وهو الضغط والتأثير المباشر لحركة الانتفاضة. إن تحليل عملية الاغتيال طبقًا للمتداول إعلاميًا ربما يجلو بعض الحقائق التي غابت خلف ضباب الجيوستراتيجيا.
لقد جعل اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني من التوترات التي ظلت في حدودها الدبلوماسية لفترات طويلة تنفلت إلي حيز الخيارات العسكرية والمواجهات المباشرة بين واشنطن وطهران، الوضع الذي تكدس على تخومه حشدًا من الاحتمالات والتكهنات المتداولة على منصات الإعلام المختلفة التي أعقبت عملية الاغتيال حول إمكانية أو عدم إمكانية اشتعال الوضع بين المعسكرين المتصارعين على الأراضي العراقية.
ولكن شهدت أيام ما بعد الزلزال وبعد وصولنا إلى عتبة الأسبوع الثاني من تاريخ عملية اغتيال سليماني، وبعد الرد الإيراني محدود النطاق بقصف إحدى القواعد الأمريكية “قاعدة عين الأسد”، انحسار موجة التوترات إلى حدودها المعتادة بين الجانبين، الأمر الذي جعل بعض المتابعين عرضة لإغواء الساحرة الفاتنة “نظرية المؤامرة!”، باعتبار أن الضربة الإيرانية كانت باتفاق مع الأمريكان ــ أي كانت مجرد مسرحية ــ وبعض التعليقات غير المتأثرة بمفاتن ساحرتنا أشارت إلى أن العملية نتيجة لحماقة ترامب وتهوره، لكن دعونا نتناول الأمر خارج السياقات المطروحة؛ فقد كانت عملية مطار بغداد محسوبة بدقة من قبل الجانب الأمريكي، حيث كان بند التخلص من سليماني مدرجًا على قائمة أعمال السياسة الخارجية الأمريكية منذ العام 2007 بعد تصنيفه كتهديد دولي في زمن إدارة الرئيس بوش.
وبتعيين حدود ما قبل العملية بالنسبة للجانب الإيراني سنجد أن تعقيدات الوضع الداخلي، بعد المظاهرات الحاشدة بأغلب المدن الإيرانية في أواخر عام 2019، التي خرجت تحت ضغط الأزمة الاقتصادية وارتفاع أسعار المحروقات، وتم إخمادها بالقوة، لم يكن هذا الوضع يتحمل كلفة نفقات لحملة عسكرية في مواجهة غير مضمونة العواقب، والتي ربما كانت ستزيد “الطين بلة” داخليًا.
وبالنسبة للجانب الأميركي فكان ضغط المعارضة الداخلية ضد ترامب وإدارته والذي تصاعدت وتيرته إلى حدود التصويت على إزاحة ترامب من منصبه، جعلت من رأس سليماني بالنسبة له في هذا “التوقيت” كرأس “يوحنا” بالنسبة لهيرودس، فكان الأخير يريد إثبات جدارته المثقوبة ــ بفعل سهام يوحنا ــ أمام رغبة امرأته اللعوب هيروديا، وأما ترامب فكان يريد إثبات جدارته المترنحة بفعل ضربات المعارضة الداخلية، والمشكوك فيها أمام ناخبيه!
وفي ظل هذا الوضع ربما يكمن سر توقيت عملية مطار بغداد بالنسبة للإدارة الأمريكية، وأيضًا تكمن الإجابة على محدودية الرد الإيراني المحكوم بالوضع المأزوم داخليًا.
ولكن ما يهم هنا هو تأثير الهزة العنيفة التي أحدثتها عملية مطار بغداد، والغبار الكثيف الذي غلف الأجواء المحيطة بالوضع بعد سقوط أحد أعمدة قلعة الحكم الإيراني، والذي جعل من هامش الوضع مركزًا، ومن المركز هامشًا، والمركز المتواري هامشًا هنا كان الانتفاضة، انتفاضة الاستقلال العراقية، والتي عادت إلى المركز مرة أخرى بالمظاهرات الحاشدة التي عمت أغلب المدن العراقية ومعها العاصمة يوم الجمعة 10 يناير، واستمرت أيضا بمظاهرات الجمعة 17 يناير لتؤكد على أن شعلة انتفاضة الاستقلال التي حملها ثوار تشرين لا تزال متقدة.
إذا كانت العملية النوعية التي نفذتها الإدارة الأمريكية فجر الجمعة 3 يناير، واستهدفت كوادر من الصف الأول للدولة الإيرانية تشير إلى أي مدى وصلت حدة التوترات بين المعسكرين المتصارعين داخل الأراضي العراقية، فهذا الأمر لا يجعلنا نتغافل عن تأثير انتفاضة الشعب العراقي على بنية هذه التوترات، والتي ظلت ولمدة طويلة داخل حدودها الدبلوماسية ــ حرب إعلامية، تهديدات متبادلة، عقوبات وحصار اقتصادي من الجانب الأميركي.. إلخ، وكان على هامش هذه الحدود صراعات جيوسياسية لم ترتق إلى مواجهات مكشوفة على الأرض: في سورية والعراق واليمن -تحت غطاء محاربة الإرهاب- الإرهاب الذي هو في ذاته غطاء “لواقع هو منتجه!”.
إنه واقع حركة الرأسمال في طور الانحطاط، وهو الخلاصة المنطقية لحالة الهروب التاريخي لبرجوازيات عصر العولمة “المنحطة تاريخيًا” ــ وملحقاتها المحلية من برجوازيات العالم الثالث ــ من مطاردة استحقاق التاريخ ومنطقه ألا وهو “الثورة” على الوضع، والتي بدأت حلقاتها الأولى في العام 2011 إبان انتفاضات وثورات الشعوب العربية والتي تم سحقها على يد الثورة المضادة العالمية والمحلية وإغراقها في دوامة الحروب، التي كان الغرض الأساسي منها هو ترهيب الشعوب وعقابها، ولكن عادت الشعوب مرة أخرى إلى ساحة المعركة، في إفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية، ترفع راية المقاومة ضد مشاريع الاستغلال الإمبريالي بنسخته المنحطة “الرأسمال المالي” وتدفع بالأجيال الجديدة المحملة بخبرات عصر التكنولوجيا إلى ساحات المعارك الطبقية في جوهرها.
فكانت انتفاضة الشعب العراقي وتضحيات شبابه الثوار من المعارك التي تخاض ضمن هذا الإطار، إنها معارك شعوب العالم الثالث التي تناضل من أجل تحررها، ضد مؤسسات الاستغلال العالمي، المعارك التي بدأت جولتها الثانية في السودان وانتقلت إلى لبنان والعراق ويخوض غمارها -في المواقع الأمامية- الطبقات الشعبية بأميركا اللاتينية.