الرئيسية » مقالات » الخبير الاقتصادي إبراهيم نوار يرد علي مقال عز الدين شكري عن ” صراحة السيسي وصمت منافسيه”

الخبير الاقتصادي إبراهيم نوار يرد علي مقال عز الدين شكري عن ” صراحة السيسي وصمت منافسيه”

عن الصراحة والصمت..

إبراهيم نوار

المقال الذي نشره على صفحته الدكتور عز الدين شكري فشير عن “صراحة السيسي وصمت منافسيه“، هو مقال يستحق التقدير، لأنه يثير، مباشرة، قضية الوعي بالواقع كما هو، وكما نراه. فنحن “فقرا قوي..”، نعيش في بلد تديره “شبه دولة”، ومصر “ليس فيها تعليم ولا صحة ولا إسكان ولا توظيف جيد” وأن هذه ال “شبه دولة” لا تعرف كيف توفر “مليون وظيفة جديدة كل عام”، و” خدمات صحية وتعليمية لمليوني مولود”. التعبيرات بين علامات التنصيص أوردها الدكتور فشير نقلا عن الرئيس عبد الفتاح السيسى، الذي قالها في مناسبات او خطب او تصريحات مختلفة.

الحقيقة أن المعنيين، بالدرجة الأولى، بالتعليق على توصيف واقع الحال، هم منافسوا الرئيس، وقد اتهمهم الدكتور فشير ب “الصمت” على عكس الرئيس الذي التزم “الصراحة”. وأظن ان الدكتور فشير على حق، وأن منافسي الرئيس يتحملون مسؤولية تقديم توصيفهم لواقع الحال، وكيف يرون تجاوزه أو تغييره.

وهذا يدعوني بسرعة، إلى التأكيد على أن اشتباكي هنا مع مقال الدكتور فشير، لا يأتي من بوابة المنافسة مع أحد، لكن اشتباكي هنا، مع مقال الدكتور فشير، إنما هو يأتي من بوابة الحلم المشترك، حلم التغيير والعيش والحرية والعدالة الإجتماعية، الذي يشترك فيه من دعاهم الدكتور فشير ب “أنصار ثورة يناير”. وأظن إنه يكفيني من الشرف الإدعاء بأني واحد منهم.

ولذلك، فإنني سأشتبك مع مقولات الدكتور عزالدين فشير، أكثر مما سأشتبك مع تصريحات الرئيس، لأن ما يعنيني هنا، هو محاولة تقديم توصيف، لا أدعي أنه أكثر دقة، ولكنه يعبر عن مشاهدة للواقع نفسه، ولكن من ضفة أخرى، ومن زوايا مختلفة. ومن ثم فإن هذا الإشتباك هو محاولة للإسهام في إثراء قضية الوعي بالواقع كما هو، وكما نراه.

في اعتقادي أن الدكتور عزالدين شكري فشير أخطأ أخطاءا فادحة، قادته إلى نتائج شديدة التطرف. هو بدأ بتبرير الفقر، وقدم أسبابا له. وهو عرض لإحباطات الخمسينات والستينات وما بعدها، كي يتوصل بعد ذلك إلى استخلاص ان “العجز عن تغيير الوضع” هو ما انتهت إليه محاولات التغيير. ثم انتهى في مقاله إلى أسوأ نهاية يتصورها القارئ الرشيد، ألا وهي “ضرورة القمع” لأن القمع “يقوم بوظيفة أساسية في حماية الدولة العاجز، بدونه ستنهار…”!

هذه بنية منطقية فاسدة من وجهة نظري، لم تكلف نفسها عناء محاولة استنطاق الواقع، لحثه على البوح بما فيه. الدكتور فشير إستسلم لمقدمة فاسدة، ثم نسج من خيوطها ثوبه، فجاء رثا بائسا.

وسوف أتناول هنا النقاط الثلاث التي شكلت البنية المنطقية لمقال الدكتور فشير، حسب الترتيب الوارد في المقال.

أولا، حقيقة الفقر
الدكتور فشير يقرر بجرأة وبدون بحث، أن “مصر دولة فقيرة فعلا، ليس فقط من حيث الموارد، ولكن أيضا من حيث الثروة وحجم الإقتصاد ككل. الدكتور فشير هنا يخلط بين الموارد وبين الثروة وبين حجم الإقتصاد. ولغرض تقصير الطريق لفهم خطورة الوقوع في خطأ الخلط بين هذا وذاك، سنضرب بعض الأمثلة.

– قطر بلد يمتلك ثروة هائلة من الغاز الطبيعي، وهو ما يضع مواطنيه في مصاف مواطني الدول الصناعية المتقدمة، من حيث الدخل. ومع ذلك فإن اقتصاد مصر من حيث الحجم، هو أكبر من اقتصاد قطر! ولهذا فإن المقارنة من حيث حجم الإقتصاد، محسوبا بقيمة الناتج المحلي الإجمالي (2017) ، تضع مصر (235 مليار دولار) في مكانة أعلى من قطر (167.6 مليار دولار) . مصر إذن ليست فقيرة من حيث الحجم الإقتصادي، إنها أكبر من قطر.

– إسرائيل بلد محدودة الموارد مقارنة بمصر، ومع ذلك فإن حجم الإقتصاد الإسرائيلي القليل الموارد، الصغير المساحة، المحدود السكان في عام 2017 الذي بلغ (350.9 مليار دولار) كان أكبر من حجم الإقتصاد المصري. مصر إذن أغني في الموارد من إسرائيل، لكنها مع ذلك أقل منها من حيث الحجم الإقتصادي.

– لكن المقارنة بين إسرائيل ومصر، ربما تقودنا إلى واحد من مفاتيح النجاح، لا يتعلق بالحجم ولا بالموارد ولا بالثروة. بمقارنة الحجم الإقتصادي لكل من مصر وإسرائيل عام 2016 نجد أن الحجم الإقتصادي لمصر (332.9 مليار دولار) كان أكبر من حجم إسرائيل في تلك السنة (317.7 مليار دولار)! ياللهول، ماذا حدث؟ كيف تبدل الحال في عام واحد؟ الإجابة تدلنا على واحد من أهم مفاتيح النجاح. السبب في تبدل الحال هو “السياسة الإقتصادية” للدولة. قرارات نوفمبر 2016 في مصر خفضت حجم الإقتصاد، رغم بقاء الموارد والموقع والمساحة، وكل متغيرات الحجم على حالها، بينما استمرت إسرائيل في النمو، فأصبح حجمها الإقتصادي أكبر من حجم مصر، بجرة قلم جرها محافظ البنك المركزي المصري.

إن الدكتور فشير لم يدرك الفروق بين المتغيرات التي أوردها، فوقع هو في خطأ شديد، بإطلاق حكم يقضي بأن “مصر دولة فقيرة فعلا”. ثم راح بعد حكمه الخاطئ يكيل اللكمات لما أسماه “الخرافات الشعبية التي ترى أن مصر بلد غنية لكنها منهوبة”. أقول للدكتور فشير، وأرجو منه ألا يحشرني في زمرة أصحاب “الخرافات الشعبية” أن مصر بلد غنية فعلا، وليست فقيرة فعلا. غنية بمواردها التي أهدرتها الإدارات السياسية والاقتصادية المتوالية، ليس فقط في المئتي سنة الأخيرة، ولكن تاريخ الهدر يعود إلى ما وراء ذلك بكثير. ولن أعدد الموارد، لأني لا أشك في أن الدكتور فشير يعرفها. فقط أريد أن أذكره، بأن متغيرات الموارد والثروة والحجم، ليست مسؤولة عن حال البؤس الذي يعيش فيه المصريون. ففي اليابان وكوريا وسنغافورة وغيرها، تحققت التنمية، وتراكمت رؤوس الأموال، رغم فقر الموارد، وتحديات البيئة. كلمات السر كانت القيادة والرؤية والاستراتيجية والسياسة والإدارة والروح المجتمعية العالية. سيدي الكريم لا علاقة للفقر بما ذكرت أنت من أسباب، وليس مقبولا تبريره بما سقت من مبررات.

ثانيا، العجز عن تغيير الوضع
تبرير الفقر كان المقدمة الأولى، التي بدأ منها الدكتور فشير البنية المنطقية لمقاله، وقد كانت مقدمة فاسدة. المقدمة الثانية التي طور منها بنيته المنطقية كانت “العجز عن تغيير الوضع”، تتبع فيها تجارب العقود الماضية التي انتهت بالفشل. مرة أخرى لم يكلف الدكتور فشير نفسه عناء محاولة طرح أسئلة، تساعده على اكتشاف أسباب الفشل، أو حتى الإقتراب منها. ونتيجة لذلك فقد استسلم لظاهر الأمور، مكتفيا بتفسير الماء بالماء، فقد فشلت الدولة، ونحن نحتاج إلى دولة جديدة، لكن هذه الدولة الجديدة ليست متاحة لدي محلات السوبر ماركت التي تقدم خدمات “دليفري” !

الحقيقة أن الدكتور فشير في مقدمته الثانية، “العجز عن تغيير الوضع” ، إنما يقرر أمرا واقعا، ولكنه لا يتقدم لمحاولة تفسيره. وهو عندما فعل ذلك فقد ارتكب خطأ فاحشا، لأن استنتاجاته تسلب حقوق الذين أعدموا أو قتلوا أو أمضوا ردحا من الزمن، في أقبية المعتقلات ووراء قضبان السجون. إن أصحاب حلم ثورة يناير هم أحفاد هؤلاء، بدءا بمن نصبت لهم المشانق، قبل صدور الحكم بإعدامهم، في كفر الدوار في أغسطس 1952. أصحاب حلم ثورة يناير، هم امتداد لأجيال لم تكتف بالحلم، ولكنها لم تبخل عليه بحياتها. هؤلاء، وبعضهم ما يزال في السجون او المعتقلات حتى اليوم، يعلمون أن الدولة الجديدة التي تحتاجها مصر، ليست متاحة على رفوف محلات الدليفري، وإنما ستتحقق بالعمل وبالإرادة، لكنهم لن يقبلوا باستمرار دولة فاشلة أو “شبه دولة” على حد تعبير الرئيس.

الدكتور فشير لم يسأل نفسه لماذا نجحت عملية بناء الدولة الحديثة، وتحققت التنمية، في بلدان تشابهت ظروفها مع ظروف مصر، في فترات تاريخية مختلفة. لماذا نجحت اليابان وأخفقت مصر في القرن التاسع عشر؟ ولماذا نجحت الصين والهند وأخفقت مصر في القرن العشرين؟ ولماذا نجحت كوريا وأخفقت مصر في ستينات القرن العشرين؟ ولماذا نجحت تجربة الإنفتاح الإقتصادي منذ أواخر السبعينات في الصين وفشلت في مصر؟ ولماذا تسير التنمية بمعدلات أسرع منذ منتصف الثمانينات في فيتنام بينما تتعثر في مصر؟ ولماذا يزيد الفقر في مصر بينما ينخفض في معظم بلدان العالم؟ الدكتور فشير لم يلتفت أبدا إلى هذه الأسئلة، ربما لأنها لا تشغله.

ثالثا، ومن ثم ضرورة القمع
نأتي بعد ذلك إلى الإستنتاج المفزع الذي يمثل ذروة البنية المنطقية لمقال الدكتور فشير، ألا وهو “ضرورة القمع”. هذا الإستنتاج يتسق منطقيا مع المقدمتين الأولى والثانية، فمصر بلد فقير، عاجز عن التغيير، ومن ثم يصبح القمع ضرورة لحماية “الدولة العاجزة”! ولا أتصور منطقيا ان يكون الدكتور فشير من أنصار ثورة يناير، وأن يكون في الوقت نفسه من أنصار القمع، فهذا لا يتسق أبدا مع ذاك. كما لا أتصور أن يجد مفكر لنفسه مبررات سياسية أو قانونية أو أخلاقية لتبرير القمع في القرن الواحد والعشرين. على الأرجح أن الدكتور فشير يقدم وصفا للوضع كما هو، في سياق البنية المنطقية للمقال. فالفقر وفشل الدولة يبرران القمع، ذلك أن الحكومة القائمة بسبب عجزها، لن تجد ما يعينها علي الغضب والإحتجاج غير القمع.

الحقيقة أن دراسة القمع، تثبت إنه يقود إلى التطرف، وإلى تكريس عدم الاستقرار، وإلى حدوث شروخ وشقوق في نظام الدولة، بما يؤدي إلى حدوث تغييرات، تعبر عن نفسها بحدة مرات ومرات، حتى يصل المجتمع إلى وضع التوازن الديناميكي المستقر، وليس وضع الركود الميت. تجارب أوروبا الشرقية، وجنوب آسيا، وجنوب أوروبا (اليونان وإسبانيا والبرتغال)، وأمريكا اللاتينية، تعلمنا الكثير. أما أولئك الذين لا يريدون التعلم من التاريخ، فإنهم يقودون بلادهم إلى هاوية. في مثل هذه الحالات فإنهم لا يدفعون الثمن وحدهم، وإنما يدفع الثمن أيضا أبرياء، لا ناقة لهم ولا جمل فيما حدث، وهذا ما نراه حتى الآن في بلدان مثل العراق وليبيا واليمن والسودان والصومال.

وليس هناك في ختام هذا المقال أفضل من أن أوجه الشكر للدكتور عزالدين شكري فشير، فهو صاحب المبادرة، ولو لم يكن هو قد كتب ما كنت أنا قد كتبت، متتبعا البنية المنطقية لمقاله، مع اختلاف الضفة وزوايا الرؤية لكل واحد منا. وأعتقد أن القضايا التي طرحها الدكتور فشير تحتاج إلى كثير من الاشتباكات الموضوعية والجدل المنطقي، بغية الإقتراب من فهم أكثر وعيا لطبيعة الواقع الذي نعيشه، ومقومات الحلم الذي نحلم به. ولا أشك في أننا، الذين نشترك معا في حلم التغيير والعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة، نسعي جميعا إلى تحقيق ذلك الحلم، حتى وإن اختلفت الطرق والأساليب.

يتبقى بعد ذلك أن أقول أنني سأواصل الكتابة في الموضوع، لتناول بعض القضايا بالتفصيل مثل علاقة الدولة بالمجتمع، وتحديات عملية التنمية في عصر العولمة، وترتيب أولويات التنمية، وكذلك لإلقاء بعض الضوء على تجارب الدول والشعوب الأخرى، فيما يتعلق بشروط إقامة الدولة الحديثة، وتحقيق التنمية، وضمان استدامتها، بأبعادها المترابطة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والبيئية والثقافية، في عالم يتغير بسرعة مدهشة، وتنتقل فيه محاور القوة من مراكزها التقليدية، محليا وإقليميا وعالميا، إلى مراكز جديدة لم نعرفها من قبل، على الأقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

رابط مقال عزالدين شكري

صراحة السيسي وصمت منافسيه

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.