الرئيسية » مقالات » الدكتور عبدالهادي محمد عبدالهادي : الغضب وحده لا يكفي ….والغاضبون لا يصنعون التاريخ!

الدكتور عبدالهادي محمد عبدالهادي : الغضب وحده لا يكفي ….والغاضبون لا يصنعون التاريخ!

ظهرت الحركات الإجتماعية -السياسية فى إنجلترا في القرن الثامن عشر مع بروز حركات الإصلاحية الدينية، مثل الحركة الميثودية، لإحياء دور الكنيسة، كما ظهرت تلك الحركات في العقود الأولى من القرن العشرين، في روسيا إبان الثورة الشيوعية، وفي إيطاليا وألمانيا على خلفية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وشهدت البلاد العربية إرهاصات لمثل هذه الحركات، والتي عرفت ب”تحركات عواصم المدن” والتي ظهرت كرد فعل لتدهور الاوضاع المعيشية والإقتصادية. وشهدت مصر في القرن الثامن عشر عددا من الإنتفاضات، كتلك الإنتفاضة التي حدثت عام 1795 ضد زيادة الضرائب على الفلاحين.

في التسعينات من القرن الماضي إنتشرت الحركات الاجتماعية-السياسية في مصر، وإكتسبت هذه الحركات أهمية متزايدة في القرن الجديد مع دخول عصر المعلوماتية وثورة وسائل الإتصال، ولعبت السياسة الإقتصادية المتبعة، وقصور الأحزاب، والعوامل الخارجية، وتطور وسائل الإتصال، دورا رئيسيا في نشأتها وتطورها. ووفرت المواقع والمدونات والشبكات الإجتماعية على الشبكة فضاءا إعلاميا بديلا تفاعليا سريع الإنتشار للحركات الاجتماعية، وهو ما يتيح لها مزايا السرعة وقلة التكلفة والتواصل مقارنة بوسائل الإتصال التقليدية.

على الرغم من أن أغلب الحركات الاجتماعية تستفيد بشبكات التواصل الإلكتروني، ما يجيز تسميتها بأنها حركات إلكترونية، إلا أن تلك الحركات تختلف في مدى ارتباطها بالواقع، فبعضها له امتدادات في الواقع الاجتماعي، والآخر ليس له وجود مادي ملموس في الشارع على الرغم من صداها الهائل على الشبكة الإلكترونية، ويلخص “على الدين هلال” في كتابه “النظام السياسي المصري 1981-2010″ الخصائص العامة للحركات الاجتماعية الجديدة في: الإفتقاد إلى الأيديولوجيا، التلقائية والعفوية، ضعف التنظيم، إستخدام وسائل وأساليب غير تقليدية في العمل، والنهاية السريعة”.

تقوم أطروحة كتاب مارتن جوري “ثورة الجمهور وأزمة السلطة في الألفية الجديدة” على فرضية مفادها أن الصراع الرئيسي في القرن الحادي والعشرين هو بين جمهور غاضب تم تمكينه حديثًا من خلال مجموعة رائعة من تقنيات الاتصال، ضد النخب التي تدير المؤسسات الكبرى في المجتمع الحديث، بما في ذلك الحكومات. إكتسبت مؤسسات المجتمع الحديث هياكلها الأساسية خلال العصر الصناعي، وهي مؤسسات هرمية، تعمل وفق تراتبية من أعلى إلى أسفل، ومولعة بخطط السنوات الخمس وأوراق تقدير المواقف العلمية الزائفة.

عملت النخب الحاكمة طوال تاريخها على احتكار المعلومات والتحكم في تدفقها حتى تحافظ على سلطتها وشرعيتها، وروجت أوهاما حول كفاءة وأمانة هذه النخب، وطريقة تعاملها مع الأزمات المستحكمة للرأسمالية، مثل البطالة وعدم المساواة وتدمير البيئة، ومع دخول عصر الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي في الألفية الجديدة، إكتسح “تسونامي” من المعلومات هذه الأوضاع الإحتكارية، وانكشفت حقيقة هذه النخب.

مثل غيرها من النخب، تعيش النخب الفرنسية عند قمة الهرم الاجتماعي، ووفر لهم النظام السياسي سلطات وامتيازات أكبر بكثير مما تسمح به معظم الديمقراطيات الاخري، وساهمت هذه النخب على مدار سنوات في صناعة هذا الجمهور الغاضب، وصياغة أفكاره وطموحاته، لكنهم لم يتمكنوا -من مواقعهم عند قمة الهرم- أن يروا هؤلاء الغاضبين، وأن يعرفوا بوجودهم وشكواهم.

أتاحت الإنترنت لهذا الجمهور الغاضب فرصة أن ينظم نفسه في مجموعات وأن ينقل بسهولة احتجاجاته من الإنترنت إلى الشوارع، ودائما ما كانت النخب الحاكمة تتفاجأ، من ميدان التحرير في مصر، إلى خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، إلى حركة السترات الصفراء فى فرنسا، أصيبت الحكومات بالصدمة من هذا التغيير الجذري في المشهد السياسي.

تطابق حركة السترات الصفراء إلى حد كبير ما يوصف بالجمهور الغاضب المتمرد، فهم بادئ ذي بدء، اجتمعوا تحت الأفق الرقمي، ونظموا أنفسهم في مجموعات على فيسبوك، ثم انخرطوا في موجات من التظلم والرفض، وفجأة، ظهر عشرات الآلاف ممن يرتدون السترات الصفراء في الشوارع، ويرفعون شعارات ضد “إيمانويل ماكرون”. فمن هم هؤلاء؟ قبل كل شيء، هم على قناعة مطلقة أنهم ضد الوضع الراهن، ومناهضون للرئيس ماكرون، ومن حيث المبدأ، هم متساوون، وهي ميزة فائقة لتلك الحركات التي تبدأ على شبكة الإنترنت، لكنهم يفتقرون إلى القيادة، ويفتقرون إلى البرامج والخطط، لأن البرامج والخطط -في نظرهم- تتعلق بعمل الحكومات، وهم ليسوا يساريين، ولا يمينين، يفتقرون إلى أيديولوجية متماسكة، وهويتهم هي نوع من عدم الهوية، فهم لا يرغبون في الاعتراف بهم كحزب مثلا، ولا يرغبون في الوصول إلى السلطة.

الشبكات السياسية على الإنترنت هي ساحة مكسورة ومخترقة ومزدحمة بالطوائف والجماعات وشظايا الآراء، وهذا الجمهور الغاضب ليس واحدا، بل هو كثير ومتنوع، والمقترحات الإيجابية تقسمه وتحبطه، يمكن لهذا الجمهور أن يصبح طرفًا سياسيا فاعلًا موحدًا في الهدف، فقط، في رفض النظام الاجتماعي والسياسي القائم. هذه هي المشاعر التي تغلب على أصوات الناس الآن على شبكة الإنترنت، حيث يمكن لخطاب الغضب هذا أن يجذب المزيد من الاهتمام، ويمكن أن يتحول -في لحظة- إلى العنف، وأن يبرر التخريب باعتباره شكلا من أشكال التقدم لأنه يهدم مجموعة من الهياكل الفاسدة والمستغلة، لكن التمرد الذى يحركه الرفض فقط، يهدد بالعدمية.

تعتبر حركة السترات الصفراء نموذجا مثاليا على هذا المسار، وعلى هذه الإتجاهات، لقد بدأوا بالخطابة الغاضبة على فيسبوك، وانتهوا بتحطيم قوس النصر في باريس وحرق البنوك، كما أنها نموذجية من جانب آخر، حيث لا يجيب الجمهور الغاضب في معظم الحالات ب”نعم” أبدًا، وليس هناك من احتجاج واحد في الشارع، تم نزع سلاحه بسبب تنازلات سياسية قدمتها الحكومة.  الجمهور هنا ليس هو “الشعب”، رغم أنهم يزعمون ذلك في كثير من الأحيان، وليس هو مفرد “الجماهير”، ذلك المفهوم الذي ورثناه عن القرن الماضي، وليس هو مجرد “حشد” من البشر، على الرغم من وجود علاقة وثيقة بين الجمهور والحشد في عصر التليفون المحمول، ويعرف “والتر ليبمان” الجمهور بأنه ليس كيانا أو هيئة ثابتة من الأفراد، وإنما مجرد مجموعة من الأفراد، الذين تم تعبئتهم وحشدهم عن طريق الاهتمام بقضية معينة. تم تعبئة هؤلاء وحشدهم على أساس التخلص من “ماكرون” ، وتم حشد الجمهور البريطاني على خلفية قضية الخروج من الإتحاد الأوروبي، وتم تعبئة الناخبين الأمريكيين من قبل ترامب على قضية “تجفيف المستنقع” السياسي في “واشنطون” العاصمة.

يشبه الجمهور الفرنسي الجمهور في كل مكان، يمكنهم أن يتحدوا ويتحركوا- فقط- في معارضة النظام القائم، لكنهم يفتقرون إلى بدائل واقعية، وليس لديهم هدف في الاستيلاء على السلطة، لذلك غالبا ما يسقطون في العدمية، فكيف يمكن التوفيق بين الجمهور الغاضب والنظام الديمقراطي؟ عادة ما تتم صياغة الإجابة في عالم الإقتصاد، فيقال، إن الجمهور يريد المزيد من المال، والمزيد من الوظائف، والمزيد من البرامج الحكومية. قد يكون هذا صحيحا في حالات محددة، لكن ذوي السترات الصفراء ليسوا من الطبقات الأكثر فقرا في فرنسا، فمعظمهم يمتلكون أجهزة كمبيوتر محمولة وهواتف ذكية ويعرفون كيف يتجمعون على فيسبوك، وهم في ذلك يشبهون كثيرا من الحركات الاجتماعية، مثل حركة “المغتربين” في أسبانيا حيث كان معظم المشاركين فيها من خريجي الجامعات، وكانت الحشود في ميدان التحرير بمصر من النخب المتعلمة، وفي الولايات المتحدة الأمريكية فقدت احتجاجات “احتلوا وول ستريت” بريقها عندما بدأ المشردون في الإنضمام إلى معسكر المحتجين.

يرى “جوري” أننا لا نزال في المراحل الأولى من تحول هيكلي هائل، فالنموذج الصناعي الذي بدا للبشرية على مدار قرن كجزء من العالم الطبيعي، يتعرض الآن للتكسير والتشظي، ويشمل ذلك النموذج الصناعي للديموقراطية، البنية الهرمية للأحزاب السياسية، الحكومات التي يسيطر عليها التنفيذيون، والترتيبات المريحة بين السياسة والإعلام. ويقول:عندما تتابع شكاوى الجمهور، ليس في فرنسا فحسب، ولكن على المستوى العالمي، ستجد موضوعين رئيسيين: المسافة والفشل.

يشعر الجمهور أن المسؤولين المنتخبين يصعدون إلى قمة الهرم، ثم يختفون عن الأنظار، وهذا مخالف لروح الديمقراطية، فالرؤساء ليسوا “آلهة الأوليمب”، والسياسيون ليسوا من نجوم السينما في “هوليود”، يطالب الجمهور بتقريب المسافات بينه وبين النخب، لكن النخب المرتعدة تبتعد أكثر وأكثر، كانت النخب السياسية الحاكمة “ذكية جدا”- بمعني- إلكترونية جدا، ورقمية جدا، لكنها لم تر الجمهور الذى يسكن عند قاعدة الهرم، ويؤكد على ذلك ما قالته المرشحة الديموقراطية “هيلاري كلينتون” في تعاملها مع الناخبين في 2016 من أنها مضطرة للتعامل -كما قالت- مع “شخصيات مزرية”!

تعد الحكومات والسياسيين بالكثير، لكنهم لا ينفذون سوى القليل من هذه الوعود، يسوقون ادعاءات خارقة واستثنائية حول قدرتهم على “حل” أزمات مثل البطالة وعدم المساواة الاقتصادية، لكنهم لا يدركون أن المجتمع ليس معادلة رياضية، وأن الظروف التاريخية المعقدة ليست “مسألة” في الرياضيات. ففي كثير من الأحيان، يتقدم المرشحون بوعود من شأنها أن تدمر مصداقيتهم وتزعزع الثقة فيهم. إن مرض الحكومات الديمقراطية في هذا العصر المضطرب لا يكمن في أنهم أصبحوا فجأة ديكتاتوريين، لكنهم ببساطة فقدوا ثقة الجمهور، وبالتالي، فقدوا شرعيتهم وسلطتهم، ينطبق ذلك أيضًا على ماكرون وميركل وسالفيني وترامب، إنهم يحكمون في وقت تتفكك فيه المؤسسات والأبنية الهرمية التي حكمت العالم لقرون، وهم شعبويون، لذلك يمكنهم –فقط- حشد الضعف في مواجهة العدمية، وإذا ما أردنا الإصلاح الضروري فيجب أن نبدأ بالاعتراف بهذا الواقع.

إن الحرب الأهلية أو الاستبداد العسكري تمثل تهديدات حقيقية للديمقراطية، لكن على الرغم من خطاب الغضب السائد والعنف الظاهر، لا يمكن القول أن العنف وصل إلى درجة الحرب الأهلية في أي مكان في العالم الديمقراطي، إرتكب عدميون أفراد أوجماعات صغيرة، هنا أو هناك، عددا من الجرائم الفظيعة، كما حدث في مسرح “باتاكلان”، ومؤخرا في كنيسة “كرايستشيرش” في نيوزيلندا، وحقق تنظيم “داعش” لفترة بعض النفوذ في بلاد الشام والعراق، لكن هذه الفظائع لم تشمل المجتمع كله، وفي الدول الديمقراطية، لا تزال معظم الجرائم لفظية، حتى ظهرت صورة “ماكرون” السلطوية بوضوح في استدعاء الجيش ونزوله للشوارع، وهي علامة واضحة على الضعف.

على النخبة أن تعترف بحدود المعرفة الإنسانية، وأن تتعلم التحدث بتواضع، فهم لن يكسبوا الجمهور من خلال الوعد بالجنة، عليهم أن يتحلوا بالنزاهة، وأن يقولوا الحقيقة كما يرونها، وأن تكون لديهم دائما شجاعة الاعتراف بالخطأ، يجب أن يؤمنوا بالمساواة، وأن يتحدثوا بلغة واضحة، بدلاً من المصطلحات، وأن يشاركوا في المحادثات الرقمية التي لا تنتهي، وأن يقللوا من أعداد الحراس الشخصيين وسيارات الليموزين، باختصار، يجب النظر إليهم على أنهم ينتمون إلى نفس النوع البشري الذي ينتمي إليه الجمهور، وأن يفعلوا ما هو أكثر –وأهم- من الكلام: عليهم أن يستمعوا…أن ينصتوا لهذه الاصوات الغاضبة قبل أن يتسع الحريق!.

لا شيء من هذا سيكون سهلا، وأتصور أن أيا من هذه النتائج سيتحقق دون صراع، لقد مر النظام الديمقراطي بأوقات عصيبة من قبل، في ثلاثينيات القرن الماضي، على سبيل المثال، بدا أن الحكومات الاستبدادية تملك المستقبل، لذلك يعتقد “جوري” أنه لا يوجد سبب للاعتقاد بأن الديمقراطية لا يمكنها التغلب على أزمة السلطة الحالية. لكن ما هو البديل للديموقراطية الليبرالية؟ كيف سيكون النظام الجديد؟ هل هو النموذج الصيني؟ أم الروسي؟ على الرغم من غضب الجمهور، وعدم ثقته في الحكومات وفي المؤسسات الحاكمة، ربما تستمر الديموقراطية الليبرالية -على الرغم من عيوبها الجوهرية- إلي حين تبلور بدائل ممكنة وواقعية، فهي توفر حدا أدنى من الاستقرار السياسي، لكنها- في نفس الوقت- تغذي تيار العدمية، الذي يعتقد أنصاره أن لا شيء أفضل من الوضع الراهن!

الغضب وحده لا يكفي….والغاضبون لا يصنعون التاريخ!

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.