الرئيسية » اقتصاد » الدكتور عبدالهادي محمد عبدالهادي يكتب عن ملامح ما بعد كورونا

الدكتور عبدالهادي محمد عبدالهادي يكتب عن ملامح ما بعد كورونا

ملامح ما بعد كورونا

تتحرك الأحداث بسرعة فائقة منذ أطلق الفيروس التاجي الجديد تفاعلا متسلسلا هدد كل مظاهر الإستقرار في العالم، فقد ربع مليون إنسان حياتهم، وأصيب أكثر من ثلاثة ملايين آخرين، وفقد الكثيرون وظائفهم، ويوميا تزيد أعداد الموتى والمصابين. ليس هناك بعد ما يشير إلى أن الوباء قد وصل إلى ذروته، ولا يبدو أن لقاحا، أو علاجا ناجعا، سيتاح قريبا ومجانا للجميع، و يخشى الجميع مما يمكن أن يحدث خلال الأسابيع أوالأشهر القادمة.

بدأ المرض في الصين ومنها انتقل إلى معظم دول العالم، لكن النسبة الأكبر من الإصابات والوفيات تتركز في الصين وإيران والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، وإذا انتقل الوباء إلى الأحياء المزدحمة والمخيمات الفقيرة ومدن الصفيح في إفريقيا وشبه القارة الهندية وأمريكا اللاتينية، حيث لا يتوفر سوى القليل من مرافق الرعاية الصحية، سوف ترتفع أعداد الوفيات إلى الملايين، وسنشهد آفاقا هائلة من الدمار والتفكك الإجتماعي مشابهة لما حدث في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

وتعاني أسواق الأسهم من انخفاضات حادة، وتتراجع أسعار النفط بدرجة ربما لم تحدث من قبل، وعلى الرغم من إعلان عدة بنوك مركزية عن خفض أسعار الفائدة، لكن لم يكن لذلك أي تأثير على الإطلاق، وواصلت أسواق الأسهم الهبوط. ويعكس التوتر الشديد في الأسواق النظرة المتشائمة للطبقات الحاكمة خوفهم من آثار الوباء على الاقتصاد العالمي، الذي كان من المتوقع له أن ينكمش، حتى ولو لم تحدث الجائحة.

توجه النخب الحاكمة اللوم للفيروس، وتعتبره السبب في الأزمة الإقتصادية، وهذا غير صحيح، لأن ظهور الوباء ليس أكثر من مجرد حدث عرضي، كشف عن التناقضات الكامنة في جوهر النظام، إنها أزمة النظام ككل، والتى تجمعت عناصرها وتفاعلت عبر عقود لتصل إلى اللحظة الراهنة. طفت على السطح كل تناقضات النظام الرأسمالي، ولا توجد حتى الآن أية علامة على قرب حدوث انتعاش سريع، ويتوقع خبراء أن ينخفض معدل نمو الإقتصاد العالمي إلى 1% مقارنة بما كان في العام الماضي 2.6% ، وهو تفكير بالتمني، لأن دخول الصناعة والتجارة والنقل في مرحلة من الإضطرابات، سوف يؤدي إلى خفض الإستهلاك ودخول الإقتصاد في مرحلة ركود، وسوف يعاني الاقتصاد العالمي من أزمة عميقة.

ففي الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، شهدت البلاد خلال الربع الأول من العام الجاري- ولأول مرة منذ ثورة ماو- معدل نمو سلبي. وعلى الرغم من كل ما يقال عن احتواء المرض هناك، فلا يزال قطاع الخدمات في مقاطعة هوبي في حالة شلل، والغالبية العظمى من الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي يعمل فيها ما يقرب من 80% من العمال، لم تستأنف العمل حتى الآن، ومع أن الصناعات الرئيسية لا تزال تواصل الإنتاج، لكن دخول بقية دول العالم في الركود سوف يخفض من الطلب على الصادرات الصينية.

وتتعرض أوربا لضربة قاسية، لا سيما إيطاليا، التي تعد ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو. إجتمع مجلس وزراء الاتحاد الأوربي اجتماعا عاجلا، قرروا خلاله تأسيس صندوق بقيمة 25 مليار يورو، معظمها موجودة بالفعل في موازنة الاتحاد، ثم اتفقوا في اجتماع تال على مضاعفة الموازنة، وكذلك على تعطيل العمل ببعض القيود التى كانت مقررة على موازنة الدول، وفي محاولة لتجنب الكارثة، يتوسعون بشكل كبير في الإنفاق الحكومي، ويناقشون تعليق العمل بمعاهدة “ماستريخت”، التي تلزم الدول الأعضاء بألا يزيد الحد الأقصى للعجز في الموازنة عن 3%.

هذه القرارات تعني أن لا أحد لديه خطة معقولة لمواجهة الوباء، وترك كل دولة لتواجه الوباء بطريقتها، ولم تكترث كثير من الدول بنصائح منظمة الصحة العالمية، وتصرفت كل دولة بمفردها، فأغلقت النمسا حدودها مع إيطاليا، وفرضت دول أوربية أخرى حظرا على الرحلات الجوية من وإلى إيطاليا، وأغلقت جمهورية التشيك حدودها أمام المسافرين من 15 دولة، وفرضت فرنسا وألمانيا ودول أخرى حظرا على تصدير بعض المنتجات الطبية.

ومثلما حدث عقب الأزمة الإقتصادية العالمية في 2008 وأزمة اللاجئين، تم إغلاق السوق المشتركة تدريجيا في غضون أيام أو أسابيع قليلة، خذل الإتحاد الأوربي إيطاليا، ما دفع بالرئيس ورئيس الوزراء إلى انتقاد تقاعس الإتحاد عن مساعدة بلاده، وقال الرئيس “أن إيطاليا تمر بوضع صعب وقد تكون خبرتها في مكافحة انتشار الفيروس التاجي مفيدة لجميع دول الاتحاد، لذلك تتوقع إيطاليا تعاونا مشتركا في مواجهة الوباء”. في نفس الوقت، تلقت إيطاليا مساعدات من عدة دول خارج الإتحاد، على رأسها الصين وكوبا ومصر، وكانت المساعدات الصينية وحدها أكثر مما تلقته من دول الإتحاد الأوربي مجتمعة. يشعر الإيطاليون بالخيانة نحو الإتحاد، وليس بعيدا أن تتصاعد في إيطانيا، وربما إسبانيا أيضا، الدعوة للخروج من الإتحاد. كشفت الأزمة الحالية كل التناقضات داخل الإتحاد الأوربي، وطرحت علامات استفهام حول مستقبله.

في البداية تجاهل دونالد ترامب الوباء، ثم ادعى أن الوباء مجرد سعال، وأنه لن يؤثر على الولايات المتحدة، وذهب بعد ذلك إلى وصف الفيروس بانه “فيروس أجنبي” مرة، و”فيروس صيني” مرة أخرى، وفرض قيودا على السفر إلى عدة دول، وجدد دعوته لبناء الجدار على حدود المكسيك (على الرغم من قلة عدد الإصابات في المكسيك مقارنة بالولايات المتحدة). من المتوقع أن يكون لقيود السفر تأثير فوري على قطاعي السياحة والخدمات، ومن المرجح أن يساهم ذلك في دفع اقتصاد الولايات المتحدة للركود. كما تتصادم روسيا والمملكة العربية السعودية حول مستوى إنتاج النفط، وهو الصراع الذي أدى بالفعل إلى انخفاض كبير وغير مسبوق في أسعار النفط.

وعجزت الدولة اللبنانية عن سداد ديونها، وربما تلحق بها- على المدى القصير أو المتوسط- دول أخرى، مثل الهند وتركيا والأرجنتين وإندونيسيا وجنوب إفريقيا، وربما مصر. أدى انتشار الفيروس إلى إعادة بعث حمى النزعات الحمائية بين دول العالم، ويمكن أن تؤدي قيود وحواجز السفر إلى مزيد من الحواجز التجارية، ويمكن أن تشتعل من جديد الحروب التجارية، بين الولايات المتحدة والصين، أو بين الولايات المتحدة وأوربا، والتي يعتقد البعض أنها كانت قد هدأت، بطريقة قد لا يمكن السيطرة عليها.

ربما كانت أزمة 2008 هي الخلفية المباشرة للأزمة الحالية، لكن الأمور أعقد من ذلك بكثير، الجذور الحقيقية للأزمة تكمن في جوهر النظام الرأسمالي في طبعته الليبرالية الجديدة. لم تتمكن النخب الحاكمة من حل الأزمة عام 2008 حلا جذريا، لكنها تمكنت من تأجيلها لبعض الوقت، من خلال التوسع الهائل في توفير القروض والإئتمان، أي عن طريق زيادة الديون، والذي أصبح الآن عقبة هائلة أمام النمو.

كانت الفقاعة ستنفجر، عاجلا أو آجلا، لأن الإنتعاش السابق كان ضعيفا جدا وهشا لدرجة أن أي حدث، مثل ارتفاع سعر الفائدة في الولايات المتحدة، خروج بريطانيا من الإتحاد الأوربي، الإشتباك مع روسيا، تفاقم الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، حرب في الشرق الأوسط قد تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط، أو حتى تغريدة غبية تصدر عن البيت الأبيض، قد تثير الرعب وتدفع بالاقتصاد إلى الهاوية.

من وجهة نظر الإقتصاد، كان الفيروس مجرد حدث عرضي، يعبر عن أزمة أعمق، وسيؤثر على المستقبل، وسيحد من قدرة النخب الحاكمة على التخفيف من حدة الأزمة أو تجاوزها. سوف تضعف الآثار الخطيرة للوباء الاقتصاد العالمي الضعيف بالفعل. في الكثير من البلدان تتخذ الحكومات قرارات وتقوم بتدابير خاصة، فتمنح العاملين في القطاع العام والحكومي أجازات مرضية، وتسمح البنوك بتأجيل سداد الديون العقارية وأقساط الديون الأخرى لفترات، وتوفر قروضا وتخفيضات ضريبية للشركات الصغيرة والمتوسطة المعرضة للإفلاس. وعلى الرغم من حزم الإنقاذ المالية، وإجراءات دعم الاقتصاد، تظل آثار هذه الإجراءات محدودة، بسبب الوباء الذي لن تزول آثاره في أي وقت قريب. صحيح أنه يمكن لهذه الإجراءات أن تؤجل المشكلة لفترة، لكنها لن تحلها، ومن غير المرجح أن تؤدي هذه التدابير (الكينزية) إلى زيادة الإستهلاك، بل نتوقع أن تزيد معدلات البطالة وأن ينخفض الإستهلاك بشدة خلال الأشهر وربما السنوات القادمة، ليصبح عائقا إضافيا أمام حل الأزمة.

سوف تضرر قطاعات كبيرة في الإقتصاد بشدة، مثل صناعة الترفيه ودور السينما والمقاهي والمطاعم، من المتوقع أن يبتعد الناس- لوقت غير معلوم- عن هذه الأماكن العامة، وسيكون لذلك تأثير مدمر على العاملين في هذه القطاعات، وربما يستمر الوضع هكذا، على الأقل، إلى حين الوصول إلى لقاح أو علاج ناجع للمرض. وسيتوقف الإنتاج في عدد من الصناعات الرئيسية بسبب تفشي الوباء، وعلى الرغم من كل محاولات الحكومات، من المتوقع أن ترتفع معدلات البطالة مجددا. النخب الحاكمة مرعوبة من احتمالات البطالة الجماعية الواسعة وأثر ذلك على الصراع الطبقي الذي يوشك أن يشتعل.

أول الخاسرين في الغرب هم العاملون في صناعة الخدمات والبناء والنقل، ففي إيطاليا مثلا، جزء كبير من القوى العاملة، وخاصة في القطاعات الأكثر تضررا، مثل صناعة السياحة والفنادق والمطاعم، هم من العمالة العرضية والمؤقتة. أما في البلدان الفقيرة فمن المتوقع ان يكون الوضع أسوأ بكثير، ففي إيران على سبيل المثال، يعمل 96% من القوى العاملة وفق ما يسمى ب”العقود الفارغة”، التى لا تمنح العمال حقوقا كافية في المعاش والأجازات والرعاية الصحية. وفي كل البلدان سيخيم شبح البطالة الواسعة، منذرا باشتعال الصراع الاجتماعي والتطرف والأزمات الاجتماعية. كل هذه الظروف ترجح أن الأزمة تتجاوز الإثار المباشرة للفيروس، وأننا نواجه أزمة مشابهة، وربما أطول وأعمق، مما سمي أزمة “الكساد الكبير” في الثلاثينيات من القرن الماضي.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.