Site icon بوابة التحالف الإخبارية

الدكتور عبدالهادي محمد عبدالهادي يكتب عن ” كيف نواجه الوباء”

في أوقات الأزمات تناشدنا النخبة الحاكمة أن نقف صفا واحدا في مواجهة الأزمة، وخلف هذا الشعار الوطني يبرئون أنفسهم، ويحملون أعباء الأزمة للعمال والفلاحين، والفقراء عموما، ويلقون باللوم على الشعب. قامت الحكومة في كثير من البلدان بتنفيذ إجراءات قاسية ضد العمال، ففي الصين وإيطاليا والدانمارك، إستمر العمل في بعض المناطق كما لو كانت تخضع للأحكام العرفية، وأجبر العمال في مصانع الصلب الرئيسية في الصين على البقاء لمدة شهر تقريبا فى مصانعهم دون الحصول على إجازات أو العودة إلى ديارهم.

في معظم دول العالم يضطر الأطباء والممرضون للعمل لساعات طويلة حتى يسقطوا منهارين من التعب، ويطلب من العاملين في بعض القطاعات الصناعية مواصلة العمل دون ما يكفي من وسائل الأمان من العدوى، وهنا نسأل: إذا كانت مواجهة انتشار الوباء توجب النصيحة بالبقاء في المنزل، فلماذا يطلبون من العمال، حتى في قطاعات الاقتصاد غير الرئيسية، أن يذهبوا إلى العمل؟ الإجابة واضحة: من أجل استمرار أرباح الرأسماليين. لكن على الرغم من تقييد حقوق العمال في الإضراب بسبب تدابير الطوارئ، بدأ العمال في إيطاليا يتخذون عددا من الإجراءات لمواجهة الظلم الواقع عليهم، وانتشرت موجة من الإضرابات عبر البلاد، وخرجت أعداد منهم للاحتجاج على عدم توافر تدابير وأدوات الحماية الطبية، وطالب المضربون بإغلاق المصانع التي تنتج سلعا غير ضرورية، مع ضمان الإلتزام بأجور العمال حتى يتم تنفيذ الإشتراطات والإجراءات الصحية المناسبة. مثلت تلك التحركات العمالية ضغطًا هائلاً على القيادات النقابية لاتحادات العمال هناك (CGIL-CISL-UIL) والذين كانوا حتى ذلك الحين يقفون في صف الرأسماليين الصناعيين ويمارسون الضغط على العمال من أجل استمرار العمل وإبقاء المصانع مفتوحة.

ومؤخرا، بدأ تخفيف القيود في الصين، ومن الوارد إعادة فرضها مرة أخرى بمجرد اندلاع موجة ثانية من الوباء. إيطاليا والدنمارك تحت الإغلاق. ولا يختلف الحال كثيرا في العديد من الدول الأخرى. تحاول الحكومات أن تظهر في صورة وكأنها “تفعل شيئا”، ورغم أن بعض التدابير التي تم اتخاذها، تعتبر منطقية من وجهة نظر مكافحة الوباء، إلا أن الملكية الخاصة، وفوضى الرأسمالية، ودور الدولة القومية، تقوض مساعي مواجهة الوباء. تقوم شركات الرعاية الصحية والمستشفيات الخاصة بإحالة المرضى إلى المستشفيات الحكومية والعامة، وترفض شركات التأمين الصحي الخاصة تغطية تكاليف التشخيص والعلاج، وهناك نقص واضح في أعداد مجموعات الإختبار، وتربح الشركات الخاصة من ارتفاع أسعار المطهرات والأقنعة الواقية وحتى مجموعات اختبار الفيروسات التاجية التي ينتجها القطاع الخاص.

لجأت الحكومات إلى انتهاج طرق مختلفة، وأحيانا متناقضة، في التعامل مع الأزمة، حتى 11 مارس كان دونالد ترامب ينفي أن المرض يشكل تهديدا على الولايات المتحدة، ورفضت الحكومة في الصين التحرك ضد الوباء لأسابيع خوفا من الإضرار بالإقتصاد، وبدلا من ذلك، سجنت واضطهدت الطبيب الذي اكتشف وأبلغ عن الوباء الجديد مع زملاءه. بعدها، تم بناء سلسلة من المستشفيات سريعا للتعامل مع الوضع، وأجريت اختبارات لعشرات الآلاف من الناس، حتى أولئك الذين لم تظهر عليهم أعراض. وفي سنغافورة تم تزويد جميع السكان بأدوات السلامة من القفازات والأقنعة الطبية.

وفي إيران، رفض النظام الاعتراف بوجود المرض لأسابيع من أجل إلحفاظ على نسبة مشاركة مرتفعة في الانتخابات. ولا يزال النظام الإيراني يخفي شدة الوباء هناك. وفقا للارقام الرسمية، مات بضع مئات فقط من الإيرانيين، لكن التقارير غير الرسمية تؤكد أن الوفيات أكثر من ذلك بكثير، وترجح أن يكون عدد المصابين عشرات – وربما مئات – الآلاف. عندما سُئل المرشد الأعلى “علي خامنئي” عن الإحتياطات والإجراءات التي يمكن أن يقوم بها الناس في مواجهة الفيروس، إقترح عليهم أن يصلوا. بالطبع هذا مهم، لكن للفقراء فقط، لأنه إذا ما أصيب خامنئي نفسه، فمن المؤكد أنه سيحصل على أفضل رعاية طبية ممكنة.

حسب منظمة الصحة العالمية كان المصدر الرئيسي لانتشار المرض في إيران هو مرقد “قم”، حيث يتوافد الحجاج بالملايين طلبا للشفاء، لكن رفض النظام الإعتراف بذلك، وإمعان المؤسسات الدينية في تحدي إجراءات الأمان، وتصوير الوباء على أنه ليس سوى مؤامرة غربية، كل هذا من شأنه أن يقوض الأساس الكامل للنظام الديني الثيوقراطي هناك، وأن  يحفز ردود فعل مضادة غاضبة من قبل الجماهير الإيرانية التي تدفع حياتها ثمنا لتعفن الطبقة الحاكمة هناك.

في السنوات الأخيرة خفضت كثير من الحكومات من الإنفاق على الرعاية الصحية، الأمر الذي حد من قدرة هذه الدول على التدخل بنجاح لمواجهة الوباء. ففي إيطاليا مثلا، تم إلغاء 46500 وظيفة في مجال الرعاية الصحية خلال الفترة من 2009-2017. فقدت أيطاليا 70 ألف سرير في المستشفيات وانخفض عدد أسرة المستشفيات بشدة، في عام 1975 كان يوجد 10.6 سرير لكل ألف، إنخفض العدد في 2020 إلى 2.6 سرير لكل ألف. وفي بريطانيا كان هناك 10.7 سرير لكل ألف عام 1960 إنخفض إلى 2.8 سرير في عام 2013. وانخفض عدد أسرة المستشفيات المتاحة بين عامي 2000-2017 بنسبة 30%.

نفس الظروف تقريبا توجد في باقي الدول الغربية وغيرها من دول العالم. وبسبب ضعف موازنة الصحة ومحدودية المرافق الصحية توضع الأطقم الطبية في إيطاليا في اختبار قاس: عليهم أن يختاروا من يمكنهم تلقي العلاج ومن سيتركون للموت، وأن يتركوا الكثيرين من كبار السن يموتون. ومع زيادة أعداد الحالات المصابة تتعرض أنظمة الرعاية الصحية- الضعيفة أصلا- لضغوط شديدة قد تعرضها للإنهيار عندها سيترك مئات الآلاف من المرضى لمصارعة الموت ومحاولة إنقاذ أنفسهم، أما الأغنياء، الذين يحصلون على رعاية صحية خاصة، فسيفلتون من هذه المجزرة البربرية. بالفعل، تلقى عدد كبير من الوزراء والنواب وكبار المسئولين في إيران وبريطانيا العلاج الفوري، وهم في طريقهم إلى التعافي، في حين يترك عشرات الآلاف من الناس العاديين يكافحون من أجل إجراء الإختبار والحصول على النتائج في الوقت المناسب، وهناك حالة مأساوية لممرضة إيرانية لم تصلها نتيجة الإختبار إلا بعد أسبوع من وفاتها.

في بريطانيا لم تبذل الحكومة أية محاولات جادة لتفادي الكارثة الوشيكة، أجرت عددا قليلا من الاختبارات، حتى أن المواطنين العائدين من إيطاليا، والذين ظهرت عليهم أعراض الإصابة بالفيروس، لم يتمكنوا من إجراء الإختبار. بعدها بأيام كان على بوريس جونسون أن يعترف بأن آلاف الأشخاص قي الممللكة المتحدة قد أصيبوا بالفعل، ومع ذلك رفض إغلاق الأحداث والتجمعات الكبيرة، وأعلن ببرود أنه على الشعب أن يستعد “لفقدان الأحباء قبل أوانهم”. علقت صحيفة “نيويورك تايمز” في أحد مقالاتها على ذلك بأن “المملكة المتحدة تحمي اقتصادها، وليس شعبها، من الفيروس”.

أعلن رئيس الوزراء البريطاني عن موقفه قائلا أنه لضمان سير العمل- كالمعتاد- ربما يمكننا أن نسمح بانتقال المرض بين السكان، دون اتخاذ العديد من الإجراءات، وردد فكرته “المالتوثية” عن مناعة القطيع. تقوم الفكرة على اعتبار الفقر والحروب والأوبئة وسائل ضرورية لتخفيض أعداد السكان في العالم، بعبارة أخرى، ترك آلاف الأشخاص يموتون دون اتخاذ أية إجراءات جادة للمواجهة. إنتقدت منظمة الصحة العالمية، بطريقة غير مباشرة، هذه الطريقة، والتي تعمل بها أيضا دول أخرى أيضا مثل السويد والولايات المتحدة، وطلبت من هذه الدول مواصلة جهودها في احتواء الفيروس. وتكشف سياسة مناعة القطيع بوضوح العقلية الفاسدة للنخبة الحاكمة.

كتب “جيريمي وارنر” في صحيفة “تيليجراف”: أنه من منظور إقتصادي رقمي بحت لا يهتم بالبشر، ربما يكون لكوفيد-19 فوائد معقولة على المدى البعيد، لذا تفكر البرجوازية في السماح للمرض بالإنتشار بين السكان، والتخلص مرة واحدة من أكبر عدد ممكن من المسنين المعالين، حتى تتمكن بريطانيا من الخروج أسرع من الركود، مقارنة بالدول الأخرى التي تقوم بإجراءات لمحاصرة الفيروس ومنعه من الإنتشار.

نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة الأمريكية لم يتم تصميمه لمواجهة جائحة مثل تلك التي نمر بها، وغير مجهز للتعامل مع ما هو قادم، يفتقد ثلث الأمريكيين للرعاية الصحية المناسبة، ما يعني أن ملايين الأشخاص الذين ليس لديهم تأمين صحي قد يواجهون ظروفًا رهيبة. ربما تلجأ الحكومة إلى التأمين المؤقت على هؤلاء، لكن هذا لن يحل مشكلة عدم كفاية نظام الرعاية الصحية المتدهور. نظام موجه لتحقيق هدف واحد فقط، هو تحويل الأموال إلى حساب الشركات الطبية والصيدلانية وشركات التأمين. وليس لدى المستشفيات خطة للمواجهة، ولا يتوفر سوى القليل من التدريب والمعدات الطبية.

منذ البداية، رفض المركز الأمريكي للتحكم في الأمراض، استخدام مجموعات اختبار الفيروسات التاجية القياسية الدولية، التي تم تطويرها في ألمانيا، واختار بدلاً من ذلك تطوير اختباراته الخاصة، كان ذلك سببا في تأخير إجراء العدد الكافي من الاختبارات، ولم تكن هناك استراتيجية واضحة لتتبع المخالطين، علاوة على ذلك، قلة المرافق التي تجري الاختبارات، ما جعل ظهور النتائج يستغرق وقتا طويلا نسبيا. في 6 مارس الماضي، كانت كوريا الجنوبية قد أجرت بالفعل 140.000 اختبار، بينما كانت الولايات المتحدة قد أجرت 200 اختبار فقط! والنتيجة هي عدم وجود تصور عام واضح حول أعداد المصابين بالفعل.

إن توفير الإغاثة الفعالة والفورية لكل من يحتاجون إليها، توجب علينا أن نطالب بإيقاف العمل غير الضروري في المناطق المتضررة فورا، لمنع انتشار المرض مع ضمان أجور العمال، وتوفير تدابير وأدوات الصحة والسلامة لمن يطلب منهم الإستمرار في العمل، وفي مقدمتهم الأطقم الطبية والعاملين في المستشفيات، مع تحمل الشركات للتكاليف كاملة، وإذا ادعوا أن المال ليس موجودًا، فيجب أن نطالب بفتح كل الملفات. ليس من الصواب، ولا من العدل، ولا من صالح الجيل القادم، توفير الموارد اللازمة لمكافحة الوباء عن طريق الإستدانة وزيادة عجز الموازنة، لأن العمال والفلاحين والفقراء عموما، هم من سيدفعون هذه التكاليف وحدهم خلال مراحل التقشف بعد الأزمة.

من أجل تمويل الإجراءات المطلوبة وتوجيه الموارد وجهتها المناسبة وتوفير التمويل للأسر والشركات الصغيرة التي تواجه الإفلاس والقطاعات المتضررة من الإغلاق، نطالب بفرض ضريبة فورية على الشركات الكبرى وتأميم البنوك ومصادرة الثروات الاحتكارية، ووضع الصناعات التي تواجه الإفلاس تحت سيطرة وإدارة العاملين، أو على الأقل، توسيع مشاركة العمال في الإدارة دفاعا عن سبل عيشهم وحقوقهم في العمل.

تأميم قطاع الرعاية الصحية وصناعة العقاقير والأجهزة والأدوات والمعدات الطبية ومنتجات النظافة الضرورية، ومصادرة جميع مؤسسات الرعاية الصحية الخاصة، وزيادة عدد الأسرة في المستشفيات، واستخدام المباني الفارغة والفنادق والمدن الجامعية كمستشفيات مؤقتة، وإنشاء مستشفيات جديدة على الفور.

ضمان أجور معيشية مرضية للعمال الذين فقدوا وظائفهم، وتوسيع مظلة التضامن الرسمية، لتشمل العمالة المؤقتة وغير الرسمية فورا، ومنح إجازات مدفوعة لرعاية المسنين والأطفال، وكل المتضررين من إغلاق المدارس ودور الحضانة والجامعات وغيرها، وفرض ضوابط صارمة على أسعار السلع الغذائية والطبية والصيدلانية الضرورية، وحظر الفصل التعسفي من العمل، وعمليات الإخلاء من السكن، وضم الوحدات السكنية الفارغة والمغلقة التي يستخدمها الأغنياء في المضاربات العقارية لتوفير المساكن للمشردين.

يشارك العمال والموظفون واللجان المنتخبة في مواقع العمل، في مناقشة وإقرار هذه الخطوات، والإشراف على تنفيذها، وإذا كان الحضور النقابي ضعيفًا، أو غير موجود، فهذه هي الفرصة لبدء التنظيم، والمطالبة بالاعتراف بالنقابات. إن مهمتنا الحالية هي أن نكشف- بصبر وثبات- عدم قدرة الطبقة الرأسمالية على دفع المجتمع للأمام وتطويره، وأن نؤكد على أن نظاما إشتراكيا جديدا يمكنه أن يوفر مخرجا مناسبا للجميع.

Exit mobile version