تقرير : آية أنور
عندما تشعر بالخوف دوما ما تلجأ إلى بيتك ، فهو مصدر الأمن … فماذا لو أصبح العكس و أًصبح البيت والوطن هو نفسه موطن الخوف و بقاؤك فيه هو مصدر للموت – إنها فكرة من الصعب تقبلها في أي وقت ومن الجسارة مواجهتها ، وهذا هو ما واجهته مدن القناة الباسلة ، البعض واجه جرح التهجير والبعض في جلد و جسارة واجه خطر الموت تحت قصف عدو صهيوني لا يفرق بين مدرسة للأطفال كبحر البقر وثكنة عسكرية ، و لربما أصاب الكتاب والساسة والصحفيون والقراء أيضاً الملل من الكتابة عن أمر بات واضحاً للعيان ولكن ما نرصده اليوم هو فكرة أخرى فكرة بقاء ونضال المرأة في مدن القناة ، ففي كل أسرة بقيت سيدة أو أثنتين تعاون رجال الأسرة في المنزل وفلاحة الأرض ورعاية الماشية ، وكن يتم إختيارهن بعناية حتى يتحملن الظروف الصعبة للعيش في بلد تحت النيران ، ففي ذلك الوقت و بالأخص في محافظة السويس فقامت السلطات بإقناع 200 ألف مواطن بالهجرة إلي مختلف الأنحاء بعيداً عن مدينتهم الباسلة ، فما بين أسر نزحت بالكامل إلى محافظات أخرى إلى أسر ظل عائل الأسرة في السويس يباشر عمله و فرقت الحرب بينه وبين زوجه و أٍسرته إلى أسر رفضت أن تترك أرضها تلك المدينة التي ورغم أن عمرها لا يتعدي المائتي عام إلا أن نضالها ضد الاستعمار يكتب تاريخاً لم يكتبه شعباً بأكمله ، فما بين حصار 1956 وحصار ثغرة الدفرسوار حكايات شعب مناضل . واليوم 24 أكتوبر والذي يوافق العيد القومي لمدينة السويس الباسلة نقرأ أربعة حكايات من مئات الحكايات عن سيدات واجهن خطر الحصار وعشن تحت القصف ضاربات خير مثل للمساواة و أنها والرجل سواء بسواء إذا كان الأمر يتعلق بالوطن والأرض .
هيام : سافرت مشياً على الأقدام تصاحب المواشي وتحمل حجة ملكية أرضها”
تذكر هيام عبد الرحمن (62 عام) التي كانت تسكن بحي الجناين وهو الحي الزراعي الوحيد بمدينة السويس أنه في يوم 5 يونيه فوجئت الأسرة بأصوات طيران العدو الإسرائيلي و أيقنوا بعدها بحدوث النكسة ، وعندما اتخذوا قرار الهجرة استقرت الأسرة علي إرسال السيدات و الأطفال و الأبناء من هم في سن الدراسة إلي حي المطرية بالقاهرة واستقرار الرجال و بعض قلة من النساء لمعاونتهم في السويس ليباشروا زراعة الأرض و حراسة المواشي، ومن ثم وقع عليها الاختيار هي و أحدى عماتها فاستقرت طوال السبع سنوات بعيدة عن والدتها و إخوتها تساعد عمتها الحاجة سيدة عبد المعطي في شئون ذلك البيت الريفي و تتذكر يوم السادس من أكتوبر قائلة أن في هذا اليوم الرمضاني ذهبت عمتها إلي السوق لشراء احتياجاتهم من الغذاء وعند تسوقها استمعت إلي البيان رقم 1 الساعة 2 ظهرا الذى أذيع بالراديو في احدي محلات السمك وبعد انتهاء البيان أسرعت إلي حيها الجناين لتخبر باقي أفراد الأسرة بما سمعته و لتأخذهم إلي احدي الخنادق بحي الأربعين ، وظلوا لاجئين بالخندق لمدة يومين يحصلون علي غذائهم من المحلات المجاورة التي تبيع بعض الأطعمة البسيطة كالفول والفلافل والجبن يستخدمون المرحاض العام التابع لشركة شرق الدلتا المجاورة للخندق وفي يوم الثامن من أكتوبر استمعوا إلي بيان بالراديو يُبلغ أهالي السويس بضرورة المغادرة و أن من يملك ماشية عليه الاتجاه نحو الإسماعيلية ومن لا يملك ماشية عليه بالتوجه نحو القاهرة ، ونظرا لانتمائها إلي أسرة ريفية تربي الماشية توجهوا نحو الإسماعيلية سائرين مرة أخري ال 15 كم إلي منزلهم بحي الجناين ليأخذوا ماشيتهم وأوراق ملكية الأراضي وأمتعتهم البسيطة تاركين فردا منهم ليبقي مع المواشي الصغيرة غير القادرة علي المشي وبدأوا رحلتهم إلي الإسماعيلية سيرا علي الأقدام وكانت رحلة شاقة عسيرة استغرقت ثلاثة أيام وعند حضور الليل كانوا يقوموا بالدخول إلي البيوت المهجورة ليناموا بها ويستيقظوا مرة آخري لمواصلة السير حتى وصلوا إلي الإسماعيلية ومنها استقلوا سيارة تنقلهم إلي المطرية بالقاهرة حيث تقيم أسرتها المُهجرة و قامت الأسرة بتأجير معلف في الجيزة ونقلت إليه المواشي بعربات النقل . وعلي الجانب الآخر قالت أن عمتها لم تلحق بهم وظلت بالسويس في الحصار . حيث كان الموجودون بالحصار يعانون من نقص السلع مما يدفعهم إلي إحضار الدقيق من الأفران التي لا يوجد بها عمل و من ثم كانت عمتها تصنع لهم الفطائر و المخبوزات حتى انتهاء الحصار فمعاناة المحاصرين كانت تدفعهم لاستغلال كل الموارد حتى يتمكنوا من الصمود .
الحكاية الثانية ” سامية فريد لن نكن نختبئ في الخندق ، و أخي خرج ولم يعد “
تقول سامية فريد أن أيام النكسة من أصعب الأيام التي مرت عليها حيث كانت تعيش بحي الأربعين وعند سماعها لصفارة الاتذار التي تنبئ بحدوث غارة كن يسرعن بالنزول تحت السلم وذلك لأن الخندق كان يبعد عنهم مسافة و ذكرت أيضاً أنها كانت تقوم بوضع البطاطين السوداء علي زجاج الشبابيك حتى لا يظهر الضوء من خلاله وعاشوا في هذه الظروف القاسية حتى اتخذوا قرار الهجرة ففي البداية هاجروا مع جيرانهم آخذين مستلزماتهم الضرورية إلي الزيتون ثم وراق العرب ثم زفتى وكان أهل الأماكن التي هاجروا إليها دائما ما يرحبون بهم ويستضيفوهم في شققهم الفارغة ويحضرون إليهم الطعام ، كما أشارت إلي أنها كان لديها أخ يدعي رمضان فريد أبو الوفا قام بتسليم أوراقه بعد إنهاء خدمته العسكرية ثم عاد وتزوج واستدعاه الجيش قبل بدء الحرب فذهب ولم يعد وانتظر الأهل عودته حتى في أحد الأيام أرسل إليهم أحد الأشخاص عبر مكتب البريد بطاقته والكارنيه الخاص به وعند ذلك ظن الأهل أنه تم اتخاذه كأسير من ضمن الأسري حتى مر أربع سنوات علي غيابه وبذلك تيقنوا من استشهاده .
الحكاية الثالثة : سميرة ” أثناء الغارة كانت الكلاب تختبئ معنا في نفس الخندق “
قالت سميرة حسين أنها استيقظت يوم 5 يونيو الساعة الثامنة صباحا علي أصوات الطائرات التي تملأ السماء وعندها أدركت الهزيمة ، وفي مساء يوم 6 يونيه استقبلت السويس أكثر من ألف عسكري عادوا وهم في حالة صعبة وتم استخدام مدرسة السويس الثانوية بنات كمستشفي لعلاج مصابي الحرب وكان من ضمن هؤلاء الجنود المصابين أحد أقارب زوجها الذي عاد بملابس وحذاء ممزقين وفي حالة نفسية يُرثي لها، وفي مساء اليوم نفسه انقطعت الكهرباء عن السويس ولم يبق سوى إضاءة خفيفة وظل هذا الحال حوالي شهر ومن هنا اتخذوا قرار الهجرة فذهبوا إلي الصعيد وقضوا خمسة وأربعين ليلة حتى بدأ دخول فصل الصيف بحرارته المرتفعة مما أثر علي صحة ابنها بالسلب نظرا لاختلاف المناخ ، فالسويس مدينة ساحلية معتدلة الحرارة بينما الصعيد منطقة جافة شديدة الحرارة مما دفعهم إلي العودة مرة أخري إلي السويس وبالفعل عادوا وقضوا واحد وعشرين يوما ولم يحدث شيئا حتى حدثت غارة فتركت بيتها مصطحبة أطفالها ومعها زوجها وذهبوا إلي خندق بشارع المدينة المنورة وكان الخندق يمتلأ بالكلاب التي كانت تحتمي فيه وظلوا بالخندق ثلاث ساعات وفي اليوم التالي غادروا السويس وذهبوا إلي كبري القبة واستقروا بها حتي قيام حرب أكتوبر وكان زوجها مقيم بالسويس نظرا لظروف عمله و قضي أيام الحصار بها وكان يحكي لها أن من وسائل التصدي لنقص الغذاء في تلك الأيام أنهم كانوا يقومون بسلق الذرة ويتغذون عليها وكانوا يحفرون في أماكن الآبار القديمة ويفتحونها ويشربون منها ، وذكرت أن هناك سيدة بحي الجناين تدعي ملكة لم تهاجر ودخلت القوات الإسرائيلية بيتها فقامت هي و أسرتها بالمقاومة والتصدي و أسروا هذه القوات وسلموها إلي قسم البوليس لذلك سمي المكان الذي تسكن به كبري ملكة تخليدا لمقاومتها ، كما أشارت إلي أن عند عودتها إلي السويس مرة أخري وجدت بيتها به فتحات وذلك من تأثير الصواريخ لذلك ذهبت عند أقاربها حتى ترميم البيت وبعد عودتها إلي منزلها كان يتركها زوجها هي و الأطفال ويذهب لعمله وكان الضوء خفيفا ولم تكن الحياة قد عادت إلي طبيعتها فكانت تأخذ أبنائها ويجلسوا فوق السطوح ليأنسوا بنور القمر وعندما يأتي الليل وينام الأطفال كان الخوف يملأ قلبها ولكنها كانت تغني أغاني النصر مثل ( بسم الله الله أكبر بسم الله ) حتى يأتي زوجها .
الحكاية الرابعة :الطفلة نورة “العائلات كانت تتجمع معاً لتؤنس بعضها بعض أثناء الغارة “
يمكن تجاهل ذاكرة الأطفال فهي الأقوى والأرسخ في المواقف وهي التي تؤثر في طريقة التفكير و سلوكيات الفرد فيما بعد ذلك .
وتذكر نوره فتح الباب التي كانت تبلغ خمس سنوات أثناء النكسة أنه في يوم 14 يوليو 1967 عند ضرب الشركات البترولية أنها رأت السماء سوداء واستمعت إلي أصوات الطائرات وكان يملؤها الرعب ، وأشارت إلي أن عند قيام أي غارة كانت والدتها تصر أن تذهب إلي أختها أو خالة الطفلة حتى يكونوا معا في تلك الظروف العصيبة فكانوا يذهبون ويحتمون عند منطقة خالتها حيث كان يوجد منزل قوى الأساس يجلسون به حتى انتهاء الغارة .
الحكاية الخامسة : آمال”عندما كان يأتينا زائر من محافظة أخرى تختلط معنا دوما مشاعر الفرحة والحزن !!!
فيما تذكرت أمال فتح الباب أحد المواقف التي أختلط فيها الحزن والفرح عندما ذهبت مع والدتها إلي السويس في زيارة إلي والدها الذي كان مقيم بالمدينة نظرا لظروف عمله فكانت الزيارة مسموح بها ولكن يشترط وجود ترخيص وذلك قبل الحرب بحوالي عامين فتتذكر عند وصولهم ونزولهم من القطار القادم من المحافظة التي هاجروا إليها حدثت غارة وفوجئ والدها بوجودهم فكان لديه شعور مختلط بالفرح لرؤيتهم وبالحزن لخوفه عليهم ، وتتذكر أيضا أن في القرية التي هاجروا إليها عند رؤية أهل القرية لجاسوس إسرائيلي كانوا يقومون بضره والاعتداء عليه وإرساله إلي قسم البوليس وقالت أيضا أن القوات الإسرائيلية كانت تقوم بإلقاء أقلام وورنيش بها متفجرات من الطائرات وكان الكثير من الأطفال يلتقطوا تلك الأشياء ويستشهدوا بعد ذلك .
لخصت تلك الحكايات الخمس آلاف الحكايات عن شعب لا يلين . شعب مصر ، وشعب السويس ، ونساء مصر ونساء السويس الذين سطروا منذ فجر التاريخ قصص البطولة في مواجهة الغزاة من الخارج أو الحكام الظالمين المستبدين من الداخل فلا ننسى نضال شعب السويس في ثورة الخامس والعشرين من يناير وذاك الشاب الذي خرج أمام دوريات الشرطة باسطة ذراعيه فسقط شهيداً ، ليؤكد معنى واحد أن النضال مستمر طالما أستمر الظلم الاجتماعي و الإستبداد السياسي .