Site icon بوابة التحالف الإخبارية

المعرض المرتقب لصاروخان.. هكذا تحول “الخواجة” لابن بلد مصري!

تشهد الحياة الثقافية المصرية حدثا هاما، اعتبارا من السابعة من مساء بعد غد “الأحد” وحتى نهاية شهر أبريل الجاري، يتمثل في إقامة معرض لأعمال فنان الكاريكاتير الراحل “صاروخان” بعنوان “الكوميديا السياسية في “جاليري المسار للفن المعاصر” بمنطقة “الزمالك” فيما تكشف مسيرة حياة هذا الفنان الأرمني الأصل عن أنه تحول في الواقع لنموذج “لابن البلد المصري”.
والفنان الراحل الكسندر صاروخان الذي ولد عام 1898 وقضى عام 1977 يعد بحق من الرواد المؤسسين لفن الكاريكاتير بمصر فيما سيتضمن معرضه المرتقب اعمالا كاريكاتورية لم تعرض من قبل وتقع في مربع فن النقد السياسي.
وبقدر ما أثر صاروخان في الحياة الثقافية والصحفية المصرية بقدر ماتأثر بمصر التي قصدها عام 1924 بعد دراسته الفنية في العاصمة النساوية فيينا حتى تحول “لابن بلد” وتعبر رسوماته عن “ابن البلد” كما توزعت على صحف ومجلات عديدة وخاصة اصدارات اخبار اليوم وروز اليوسف فضلا عن صحف ارمنية وفرنسية.
ولأنه “الفنان المؤسس” لفن الكاريكاتير الصحفي في مصر فصاروخان هو الأستاذ لأسماء كبيرة في عالم الكاريكاتير المصري مثل حسين بيكار ورخا ثم انه القادر بفنه ورؤيته الانسانية على تحويل المآساة لنوع من الكوميديا كما تجلى في كتابه عن الحرب العالمية الثانية الذي صدر بعنوان “هذه الحرب” وكان يحمل رؤيته الأصيلة في الكوميديا السياسية.
ولأنه تحول من “الخواجة صاروخان” الى “ابن البلد صاروخان” وابتكر شخصية “المصري افندي” وابدع فيها فقد منحه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الجنسية المصرية فيما صنف كواحد من اهم 100 رسام كاريكاتير في العالم خلال القرن العشرين.
ولئن حق القول ان صاروخان لم يتمصر بصورة مفتعلة وانما بات مصريا قلبا وقالبا باختيار ثقافي اصيل فمن الحق كذلك القول بأن هذا المعرض المرتقب ينطوي على لمسة وفاء مصرية لفنان عالمي تمنت اسرته من قبل على وزارة الثقافة اقامة ذلك المعرض فيما كان زوج ابنته جارو يعقوب قد اكد ان العائلة رفضت بيع تراث صاروخان لدول اخرى بملايين الدولارات لأن هذا التراث مكانه الطبيعي في البلد الذي انتمى له هذا الفنان الكبير واحب شعبها العظيم.
وسواء برسوم الكاريكاتير الصحفي او اللوحات الفنية التشكيلية رصد الكسندر صاروخان الواقع المصري والعربي حتى بات توقيعه الشهير “صاروخان” علامة ثقافية فنية لأجيال من المصريين وكل العرب فيما تشكل هذه الرسوم واللوحات تراثا عزيزا في الحرية والكوميديا السياسية.
وقصة حياة هذا الفنان الكبير الذي ولد ببلدة “اردانوش” الأرمينية تعبر في احد جوانبها عن التفاعل الايجابي بين الثقافتين المصرية والأرمينية فيما بقت مصر حاضنة لجالية أرمينية كبيرة قدمت العديد من المواهب في الثقافة والفن وقوبلت بحفاوة شعبية مصرية.
وهذا ماحدث مع صاروخان الذي التقاه الكاتب الصحفي الكبير محمد التابعي عام 1927 وقدمه لمجلة روز اليوسف لينشر رسومه الكاريكاتورية عبر هذه المنصة الصحفية الهامة ثم اصطحبه معه لمجلة “اخر ساعة” التي اسسها عام 1934 حتى انتقل بابداعه لجريدة اخبار اليوم في عام 1946 واستمر بها حتى ان اخر رسم كاريكاتوري له نشرته هذه الجريدة في اليوم الأخير من عام 1976 وقبل يوم واحد من رحيله عن الحياة الدنيا مع اطلالة عام 1977.
وعلى مدى مسيرته الفنية الطويلة اضحى صاروخان من اصحاب المنصات العالية فى الكاريكاتيرلأنها للمفارقة منصة رجل الشارع او “المصري افندي” واحكامه ووجهات نظره بعيدا عن “الأفكار النخبوية المعقمة ” بقدر ماتشكل رسومه “بحرارة لذتها الحارقة الحراقة ولهب الفنان” مظلة ضاحكة يحتمى بها المواطن البسيط من المنغصات اليومية وهجير الأيام ووجع الأحلام المحبطة وربقة الحاجة وخسران الرهانات ثم انه دافع باقتناع عن مباديء ثورة 23 يوليو 1952 وزعيمها جمال عبد الناصر تماما كما دافع عن انجازات الرئيس الراحل انور السادات “بطل الحرب والسلام”.
و”الخواجة” الذي تحول “لابن البلد” تفرد فى التعبير بريشة الفنان عما يعتمل فى صدور الناس من عجب او غضب واستنكار ينتمى لمدرسة السهل الممتنع والقدرة على تطويع المعانى فى قوالب مشحونة بالحيوية والطاقة الضاحكة فيما يمد يده بحب لينقذ ابناء البلد من قاع الاكتئاب السحيق ويقدم لهم ترياق البهجة .
وهو فى ذلك يعبر بسلاسة المبدع عن حقيقة الشخصية المصرية التى تحتفل بالحياة حتى فى اكثر اللحظات دقة وخطورة بعد ان تشرب روح هذه الشخصية المصرية بتراكماتها الحضارية الثرية .
إنها الروح العبقرية التي تحتفظ بروح النكتة وكلما اشتدت الشدائد حبكت النكتة المصرية حبكتها العبقرية!.هذا ما استوعبه الكسندر صاروخان وبات جزءا اصيلا من تكوينه ليبدع باسم هذه الشخصية في النقد الاجتماعي والسياسي ويحفر اسمه بحروف خالدة كواحد من اهم فناني الكاريكاتير في التاريخ العربي قاطبة.
ويقول زوج ابنته جارو يعقوب ان صاروخان كان صاحب روح متقدة وعاشقة للفن والعمل وكان “ودودا وخفيف الظل ويتمتع بروح الدعابة” فيما يلفت رسام الكاريكاتير العالمي هرنت كيشيشيان الى قدرة صاروخان الفذة على التنبؤ بالأحداث ودفاعه الباسل عن قضايا الحرية والديمقراطية.
ولئن كانت رسومات وابداعات صاروخان قد عرفت طريقها لصحف اوروبية فللفنان الحق فى اى مجال عالمه الكبير والفسيح بل اكثر من عالم وعالم كما يتحدث مايكل تشابون فى طرح بديع عن “عوالم ويس اندرسون” صاحب فيلم “مملكة بزوغ القمر” ومملكته الابداعية فى عالم الاخراج السينمائى .
نعم هذا العالم كبير ومعقد ومفعم بالأعاجيب والمدهشات والأمر قد يستغرق سنوات طويلة ليبدأ اغلب البشر فى ملاحظة ان كثيرا من الأشياء المفعمة بالأعاجيب والمدهشات لايمكن استعادتها وانها ذهبت بعيدا للأبد ولم يتبق منها سوى رماد يثير الحسرة والحنين كما يقول مايكل تشابون.
ومن هنا فان الفنان الحق هو القادر على الامساك باللحظة حتى لاتضيع للأبد وهذا مافعله صاروخان عندما امسك باللحظة المصرية بأعاجيبها ومدهشاتها..انه يبدد الزهق الذى قد يعربد فى جنبات النفس وبين الضلوع الصابرة خاصة فى ايام الأخبار القلقة المقلقة والمتغيرات الحادة والشدائد بكل مايعنيه ذلك من خلل فى التوازن النفسى لابن البلد.
وبالقدر ذاته يشكل منجزه الشاهق فى فن الكاريكاتير دقائق الذاكرة المصرية وتفاصيل الحلم الكبير والنبيل فى الخلاص من كل قبح على قاعدة الحرية والعدالة والكرامة فيما يبقى احد الكبار الذين شكلوا ثقافيا القوة الناعمة لمصر فى محيطها العربى والانسانى.
فالقاهرة كانت ومازالت المركز العربى الأكثر اهمية للكاريكاتير بقائمة تطول ومرصعة بأسماء نجوم مثل صاروخان صلاح جاهين ومصطفى حسين وحجازى والليثى وزهدى وطوغان ورخا وعبد السميع والبهجورى ورجائى واللباد ورمسيس وايهاب وناجى شاكر على تعدد الألوان والثقافات والنزعات.
لكل لونه ولكل عبقريته..فصاروخان هو الرائد المؤسس والراحل العظيم مصطفى حسين بدا مع قرين الروح أحمد رجب اقرب لرجل الشارع واكثر تماسا مع الأزقة والحوارى والنجوع والكفور من العظيم المتعدد المواهب صلاح جاهين الذى كان يراوح فى كيمياء العبقرية بين المرح والانقباض وبين انفعالات البهجة وانفعالات الغضب غير ان الحزن اتى عليه فى نهاية المطاف بعد حالة اكتئاب ظهرت ارهاصاتها عقب واقعة الخامس من يونيو 1967 المشؤومة وتصاعدت مع بؤس التحولات وهزيمة الحلم العام.
فصاروخان مضى بجرأة في نقده اللاذع لمثالب وسلبيات الحياة المصرية والعربية اما صلاح جاهين فكان يتأرجح كالبندول بين حالة المرح اللازمة لابداع النكتة والكاريكاتير وبين حالة الحزن التى تتجلى فى شعره ورباعياته الفاتنة بينما حلق مصطفى حسين ببصيرة المعنى والابداع على ايقاع اللحظة المصرية لتتوالى مع اشراقة كل شمس رسومه الصريحة بنزعتها الواقعية وابتعادها الشجاع عن الأقنعة التى قد تخاصم قابليات التأويل لكنها تتجه بالبساطة والعمق معا لسويداء القلب وتصنع بابتسامة عريضة او قهقهة صاخبة نوعا من التوازن النفسى للمتلقى.
واذا كان الكاريكاتير لغة كونية ففى الثقافة الغربية كثير من الكتب لرسامى الكاريكاتير او عنهم مثل الكتاب الجديد لرسام الكاريكاتير البلجيكى بريخت ايفينز الذى صدر بعنوان :”صنع الأكاذيب ” وهو قصة مصورة وحكاية ضاحكة عن الصلف والعجرفة بما قد يعيد للأذهان على نحو ما شخصية “المصري افندي” لصاروخان او “عزيز بك الأليت” لمصطفى حسين.
وفيما تصف راشيل كوك التى تناولت هذا الكتاب الجديد للبلجيكى بريخت ايفينز فى جريدة الأوبزرفر البريطانية رسومه الكاريكاتورية بالرسوم المبهرة التى تخطف الأبصار وتتحدث باعجاب عن هذا الرسام “كسفير بلجيكا الساخرة فى العالم” وكأحد امراء السخرية المعاصرين فى الثقافة الأوروبية فلا جدال ان صاروخان كان احد سفراء مصر الضاحكة الساخرة فى العالم واحد اعظم امراء السخرية المعاصرين فى الثقافة العربية وهى سخرية ذات طابع انسانى عميق.
والولاء لشعب مصر اقترن برحلة صاروخان الصحفية المديدة فى بلاط صاحبة الجلالة المصرية منذ ان التحق بمجلة روز اليوسف في عشرينيات القرن القرن العشرين حتى امسى قصة مصرية مسكونة “بحلم المصري افندي” ولفتت حتى انظار الصحافة العالمية.
الأصالة وتفرد الرؤى البهيجة ورسالة القلوب الدافئة كلها سمات مميزة لرسامى الكاريكاتير الكبار فى العالم شرقا وغربا مثل هيرجيه وبريخت ايفينز وصاروخان وصلاح جاهين ومصطفى حسين..رسالة فن الكاريكاتير التى تقول ان هذا العالم يمكن ان يكون جميلا رغم حماقات بعض البشر وغرورهم وغطرستهم.
وهى رسالة تضحك الجميع على هذا النوع من البشر بأقنعتهم و”بالنفخة الكاذبة” كما تسخر من كل مايعادى الروح الانسانية الأصيلة فى جوهرها الطيب وفطرتها النقية بقدر ماتربت حانية على كل من جرحته الأيام وافعال الشر والحمق والغرور والطغيان.
وهذا كله يتجلى فى الكتاب الجديد او الحكاية الأخيرة لبريخت ايفينز كما تتجلى دوما فى ابداعات صاروخان التى خرجت من القلب الدافىء والشجاع للفنان الى رجل الشارع ..فالشجاعة او الجسارة التى نال بريخت ايفينز جائزة باسمها عن كتابه :”المكان الخطأ” فى مهرجان انجوليم الدولى للكوميكس فى فرنسا خاصية اصيلة لأى فنان كاريكاتير اصيل تماما ان المغامرة الابداعية والتجريب الجامح احيانا والذى يطلق العنان لروح الفنان خاصية اخرى جوهرية لهذه السلالة المباركة من الفنانين.
لهذه السلالة التى ينتمى لها صاروخان الخطى تضبط نفسها بنفسها وايقاع اللحظة حاضر ابدا و لايمثل مشكلة حتى انه قد يصل لمرتبة صانع اللحظة او المشارك فى صنعها فيما يحمل دوما الوعد الصادق بالجديد والمدهش والخارج عن المألوف..وهذا وعد المبدع الحق مثل الفنانالكسندر صاروخان .
ومن هنا كان تأثيره فى الشارع والأثر القوى لفعله الابداعى ومن هنا لايتأبى الفن على المبدع الحق ليحقق فنه الخلود ..هكذا كان صاروخان فنان بقلب طفل اختار الانتماء لمصر فانتمى لذاكرة حضارية عمرها الاف السنين وجامعة فى الكاريكاتير قالت وتقول كل شىء لتكون جزءا من طعم الحياة المصرية والوانها ولتجعل الدنيا اقل تجهما واكثر رحابة وبهجة.
واذا كانت محافظة القاهرة قد اطلقت اسمه على احد شوارع منطقة “النزهة الجديدة” فسيبقى “صاروخان” قصة مصرية حتى النخاع فى عالم الكاريكاتير..قصة الفنان وقصة الانسان….حكاية المعانى الخضراء الطازجة للخواجة الذي تحول لابن بلد مصري.

Exit mobile version