كتب: حسام إبراهيم
في روايته الجديدة “باب رزق” يحقق عمار علي حسن نقلة إبداعية في رحاب الواقعية الاجتماعية بعد أن امتاح من معين الواقعية السحرية في روايته شجرة العابد وضمخ روايته السلفي بأنفاس مباركة من تلك الواقعية السحرية وحقق في جبل الطير نقلة نوعية على صعيد جهوده الابداعية لتطوير واقعية سحرية عربية جديدة والتي تعود جذورها في تراثنا الثقافي الابداعي للعمل الخالد والحاضر في آداب الشرق والغرب معا: ألف ليلة وليلة.
ورواية باب رزق تشكل نقلة جديدة في بناء المعادل الفني الابداعي لعالم المهمشين والعشوائيات فيما الكثير من هؤلاء المجاريح والمهمشين قدموا تضحيات للوطن.
ففي رواية باب رزق تجد أحد هؤلاء المهمشين وهو عبد الشكور يستعيد مشاهد من زمن فات ويحكي عن الشظايا التي سكنت جسده في الحرب ودمه الذي نزف على الرمال فيما السيدة التي تزوجها كانت من قبل زوجة أخيه الذي ذهب للحرب وعاد أشلاء فتزوجها ليربي ابن أخيه.
وعبد الشكور الذي أمسى من سدنة عالم المهمشين، والناطقين بلسان حال هذا العالم من المجاريح يقول لبطل الرواية كلمات عن علاقته بأبنائه تكشف فلسفته والفلسفة الحاكمة لمناطق المهمشين: علمتهم يجيبوا القرش من الهوا!.
وهكذا ستجد سميرة ابنة عبد الشكور التي وقع في هواها بطل الرواية رفعت تبيع عناقيد الفل والياسمين للعشاق العابرين على كورنيش النيل وستجد ممارسات تل العقارب بعين الروائي اللاقطة والواعية بالمتغيرات وحركة التاريخ.
فها هو حسونة ابن عبد الشكور يحفظ صور المشاهير وعلية القوم ويجتهد في حفظ جملة أو موقف للكل منهم ويتعقبهم عند دخولهم أو خروجهم من عزاء في مسجد عمر مكرم وينطق بما يحفظه فيتلذذ بعضهم بالأوصاف التي يطلقها فتذوب المسافات وتمتد الأيدي وتذوب القلوب وتنفتح الجيوب.
أما الابن الآخر عزازي فيستيقظ في البكور ويخطف كرتونة المناديل ويعبر للمنيل والزمالك وشارع قصر العيني منحنيا أمام نوافذ السيارات الواقفة في إشارات المرور ليعرض بضاعته الرخيصة فيما الابن الثالث عاطف من الذين يجدهم الناس أمامهم حين يدخلون الملاهي أو الحدائق يرتدون فرو دب أو أسد أو جلدا سميكا لهيئة فيل أو زرافة ويتقدمون ليداعبون الأطفال ويلاطفونهم.
وما كانت لرواية بطلها يدرس الفلسفة ويعشقها ومؤلفها عمار علي حسن بمنظوره الفلسفي والروائي أن تتغافل عن أن للمهمشين فلسفتهم وهكذا تفلسف سميرة مهنتها الهامشية فتقول: حين تمد يدك للعشاق بالورد والفل طالبا صدقة فأنت تتسول بالجمال..جمال الورد وجمال الحب..مثلما كان أبي يفعل بصوته الحلو ومديحه الرباني .
وإذ يبدي رفعت دارس الفلسفة دهشته من فلسفة سميرة تسارع قائلة له: لا تستغرب فقد تعلمت هنا مالا يتعلمه أبناء المدارس بينما قال والدها عبد الشكور بدوره لبطل الرواية الذي تعجب من فلسفته لا تستغرب..تلطمت طويلا فتعلمت كثيرا.
ويمكن وصف تلك الفلسفة الحاكمة لعالم المهمشين في باب رزق بفلسفة التحايل طلبا للرزق فيما تعبر عنها مقولة: تحايلوا تعيشوا ولعلها كما سمعها بطل الرواية في محاضرة لأستاذ جامعي مرموق في الفلسفة بمثابة مبدأ يعشش في رؤوس الكثير من البسطاء وأصحاب الدخول الشحيحة للاستمرار على قيد الحياة وسد الجوع وستر العري.
وبطل الرواية رفعت شاب ريفي متواضع الحال من صعيد مصر لكنه يؤمن بقيمة وأهمية الفلسفة التي درسها في جامعة أسيوط وجاء للقاهرة لاستكمال دراسته العليا فيها ويحلم بأن يصير اكبر فيلسوف يكتب بالعربية رغم سخرية أقرانه سواء من المتعلمين أو غير المتعلمين من الفلسفة وجدواها حتى قال له احدهم: آخر الفلسفة شيل الزلط.
وعلى لسان بطل رواية باب رزق يشير المؤلف لإشكالية أو آفة تحقير العلوم الإنسانية والتقسيم الساذج للتعليم الجامعي إلى كليات قمة وكليات قاع كما يؤكد أن الفلسفة نافعة للناس في الحقول والمصانع والمشاغل والورش والأسواق وعلى المقاهي وفي المكاتب والدواوين.
لكن الواقع الصعب أقوى أحيانا من أحلام الفيلسوف الصغير، وطموحاته لأن يكون من كبار الفلاسفة والمفكرين فإذا به يمارس بدوره التحايل على طريقة المهمشين أو التسول بدف ومديح في وسائل النقل العام فيما ينتهي مصيره الباعث حقا على الأسى بحمل مبخرة ليدور بها على المتاجر ممتثلا لإرادة عبد الشكور الذي تزوج ابنته سميرة، وهو يقول له اسع على رزقك لتنطبق عليه المقولة البائسة: تحايلوا تعيشوا !.
ومن الصفحة الأولى للرواية التي تقع في 278 صفحة من القطع المتوسط يهدي المؤلف للقارئ صورا قلمية بديعة والكثير من الرزق اللغوي الإبداعي ويقول على لسان رفعت بطل باب رزق أنا غض نضير وقلبي كفرخ يمام خرج من ظلمة العش النائم في حضرة الأغصان الملتفة في قلب غابة موحشة إلى طلاقة السماء الزرقاء الموشاة ببهجة الخيوط الذهبية لشمس نعد تحتها أيامنا المترعة بالشقاء كما يقول عن الحبيبة : رأيت وجهها مرسوما على كل جدار حتى الشامة فاحمة السواد بانت أمام عيني كحبة توت ناضجة شاردة من غصن طويل يهتز وديعا في ضوء قمر الليلة الرابعة عشرة من الشهر العربي .
ومن نافلة القول أن الصور القلمية التي يحفل بها فضاء الرواية دالة على ثراء قاموس صاحبها، ومعجمه اللغوي مثل قوله على لسان بطل روايته : كنت أهيم على وجهي بين الزروع حتى أصل إلى شجرة النبق التي يربط أبي فيها جاموستنا العجفاء وحمارنا الذي يعاني عرجا خفيفا في ساقه الخلفية اليمنى ونعجتين وخروفا أقرن وماعزا واحدة جلحاء.
ولأنه من عشاق هرم الرواية المصرية والعربية النبيل النوبلي نجيب محفوظ فستجد الأنفاس و الصور المحفوظية في بعض ما خطه عمار علي حسن في رواية باب رزق كقوله: وتزاحمت الفلسفات التي درستها في رأسي وبدت عاجزة عن تفسير ما انتهى إليه حالي وحاولت أن أصفي ذهني حتى أتبين موضع قدمي لكن الكدر لم يذهب عني .
والحب حاضر بأطيافه وألوانه فيما يقول عمار علي حسن أيضا ضمن صوره القلمية البديعة في روايته الجديدة التي يرتبط بطلها بعلاقة حب مع سميرة ابنة تل العقارب: سميرة.. آآآآآآه..سميرة وجعي وبهجتي.. متاهتي وملاذي في هذه المدينة التي لا تريد أن تأخذني بين ذراعيها العملاقين.
وها هو رفعت بطل الرواية ودارس الفلسفة ينجي نفسه قائلا : نعم روح سميرة هي التي كنت أحاول أن أرى ثم يقول : عاد قلبي إلى الارتجاف وسرت رعدة في بدني حين لمست أطراف أنامل سميرة يدي بلا قصد منها..كانت دافئة وناعمة ومثيرة رغم أنها لم تكن سوى لمسة خاطفة .
إنه الحب من أول نظرة كما يبوح به حوار بين بطل الرواية وفتاة تل العقارب على لسان رفعت كالتالي : لم أر قبلك أحدا..اتسعت ابتسامتها وتساءلت :ولا بعدي؟..رددت عليها: لن أرى بعدك..ألهذه الدرجة؟..أكثر مما تتصورين..أشرق وجهها بفرح غامر وسألتني: متى حدث كل هذا؟..من أول نظرة !.
يستعين مؤلف الرواية بتقنيات مثل المونولوج والديالوج والاستبطان النفسي والتوغل في أعماق النفس البشرية واسترجاع الذكريات والصور الجزئية والصور القلمية العامة والسرد المشهدي البصري والصور البصرية الضافية ليقيم البناء الروائي متقنا في باب رزق بمنسوب عال للغاية من التشويق وقدرة مثيرة للإعجاب على شد القارىء بجاذبية لا تقاوم لمعرفة مآلات بطل الرواية وبقية شخوصها.
ولأن فضاء الرواية الجديدة لعمار علي حسن يموج بأحزان مجاريح هذا الزمان وجراح واقع جهم متجهم فإن لشخصيات الرواية أن تمارس الهروب للخيال وبالخيال مثل الفتى عاطف الذي يصفه بطل الرواية بأنه اسم على مسمى.. رقيق الحال وحنون وحالم..يخطفه من واقع البائس خيال جامح يحلق به بعيدا عن تل العقارب .
وبين الصدق، والموهبة، وخفة الظل، ورشاقة العبارة، والهوى المصري المنحاز للبسطاء في هذا الوطن الطيب يمضي عمار علي حسن في روايته الجديدة ليحفر لنفسه بدأب المحب وإخلاص الكاتب للكلمة مكانة ستبقى في تاريخ الرواية المصرية والعربية.
ويمكن القول بلا مبالغة أو تزيد أن عمار علي حسن صاحب باب رزق يجسد ظاهرة المثقف الشامل والموسوعي وصاحب الاهتمامات المتعددة مع التزام لا ريب فيه حيال قضايا وهموم رجل الشارع
وبقدر ما قد يجد القارئ والباحث والناقد في الرواية الجديدة لعمار علي حسن نظرات اجتماعية عميقة ولمحات أنثروبولوجية في واقع مجتمعي متغير ولا يخلو من تشوهات جسيمة بالوسع أيضا ملاحظة المنظور الطبقي الجديد والتحولات الطبقية مع انتشار مزعج للعشوائيات التي تنبهت لها الدولة وأعلنت عن خطط واضحة لمواجهتها بل وإزالة هذه الظاهرة الزاخرة بالآفات والسلبيات والموبقات.
ومن تلك الموبقات والكروب المادية والمعنوية التي يجدها القارئ في رواية باب رزق تعاطي المخدرات وتبديد ما يكسبه الشباب في شراء البانجو والحشيش والبرشام والخمور الرخيصة وشم الكلة وضياع المعاني تحت وطأة الفقر وأنياب الجوع وتوهم أن كل شيء يمكن أن يباع ويشترى ناهيك عن فقدان الخصوصية الإنسانية وسط الزحام البائس واستشراء البلطجة كما يجسدها في هذه الرواية سعد سلطة الذي كان لابد وان تكون نهايته وخاتمة شروره الموت قتلا.
إنه سعد سلطة الذي غرس أحد أتباعه مطواته في جسد بطل الرواية لرغبته في انتزاع حبيبته سميرة منه وصاحب القائمة الطويلة من الضحايا في تل العقارب حيث سالت في الأزقة دماء وشوهت وجوه وجباه وارتجفت قلوب وانطلقت صرخات وأنات وامتلأت عيون بالدموع واضطربت أحوال وجرى الناس يمينا ويسارا وبعضهم ابتلعوا ألسنتهم وآخرون توعدوا بالثأر.
ومقابل العشوائيات ثمة انتشار على الجانب الآخر للمولات الضخمة التي باتت سمة من سمات الحياة المعولمة سواء في مصر أو غيرها من بلدان العالم فيما تومئ التناقضات لواقع بالغ التعقيد ويفرز معطياته الجديدة التي تغاير السائد، والمألوف، ومن ثم فهي تتطلب علاقات تفاعلية واستجابات إبداعية جديدة من مثقفين وطنيين مثلما فعل عمار علي حسن في رواية باب رزق .
وإذا كان بطل الرواية رفعت دارس للفلسفة، ومؤمن بجدواها وأهميتها للإنسان في كل مكان وزمان فمن الطبيعي أن تحرض تلك الرواية قارئها على التفكير واحترام العقل النقدي، والروح الناقدة على قاعدة قيم التنوير بحثا عن الأفضل للجماعة الوطنية والوطن المحبوب.
فتل العقارب كمنطقة عشوائية ليست إلا المكان القامع للأحلام النبيلة بآليات، ومطارق القمع والفساد والقسوة المفرطة بين من يفترض أنهم في نهاية المطاف ضحايا لتلك الآلة الجهنمية وقد يلعب البعض دور البلطجي في هذا السياق المأزوم والمهين للكرامة الإنسانية فيما يسعى البعض من الضحايا للتحايل بأي سبيل لالتقاط الرزق عبر نسخ جديدة لفعل التسول في دائرة عبثية تنبض بالهزيمة وتدور ببؤس ممنهج للذات الجماعية المهمشة.
ولأن الواقع صعب ومعقد وسط متاهة الفقر والعشوائية لحد أن سعد سلطة هو في الأصل من صناعة عبد الشكور والد سميرة التي أحبها رفعت فإن بطل الرواية، ودارس الفلسفة يعجز عن تفسيره أحيانا وتفسير حاله كجزء من هذا الواقع وإفراز من إفرازاته المريرة فإذا به يقول: تزاحمت الفلسفات التي درستها في رأسي وبدت عاجزة عن تفسير ما انتهى إليه حالي .
ومع ذلك فقد ابتعد عمار علي حسن بروايته الجديدة عن التناول السياسي المباشر أو المسحة الأيديولوجية الواضحة تاركا روايته للفن وحده ومقيما البناء بعذوبة الإبداع ومعايير الفن وجمالياته التي هي أكثر بلاغة وصدقا من أي رطانة سياسية أو أيديولوجية.
وإذا كان مؤلف الرواية ذاته قد جاء يوما ما من إحدى قرى المنيا ليدرس في جامعة القاهرة ثم يعمل بها ساعيا للتحقق فإن رفعت بطل باب رزق جاء بدوره من قرية في صعيد مصر وإن كانت رحلته الحافلة بالإحباطات والانكسارات في واقع ربما كان أكثر قسوة وأشد جهامة مما واجهه مؤلف الرواية عندما بدأ رحلته القاهرية مشحونا بروح مقاومة الهزيمة على كل المستويات.
ومن هنا كانت مآلات مؤلف الرواية تختلف عن مآلات رفعت ذلك الفتى الأسمر الحسن التقسيم في تلك الرواية البديعة رغم أنه لم يخل بدوره من روح تمرد ومقاومة وأحلام للتحقق في المدينة الكبيرة التي تبدو أحيانا بلا قلب ولا تحترم سوى الأقوياء وقد تسحق أحلام عاشق الفلسفة بلا رحمة وتدفعه دفعا لقبول واقع لا يليق به البتة لينتهي مصيره إلى مجرد ترس صدئ ووجود مثقوب وحاضر مقموع وشخصية مهانة في آلة العشوائية الجهنمية وتنكسر بوصلة الأحلام النبيلة للأبد وسط كراكيب الخشب والصفيح وأكوام القش والملابس المهترئة.
مدينة تعرفها الفلسفة الحقة ويعرفها الأستاذ الجامعي الذي تعلق به بطل الرواية لأنه تحدث عما يسمعه ويشاهده ويكابده باعتبارها الفلسفة ولا شيء غيرها ويقول عنها هذا الشاب الدارس للفلسفة : كانت تمشي أمامي في الأزقة وتسكن البيوت الخفيضة، الجحور التي تأوي أمثالي وتريد أن تنهار.. كما أنها تجلس على المقاهي وتلتهم الأطعمة الرخيصة وتعبر الجسور حذرة وتصرخ حتى يسمع الناس أنينها.
والعين الراصدة لرواية باب رزق ترى بوضوح وجلاء مساءلة الواقع وكشف زيفه وتعريته هم إبداعي واضح في الرواية الجديدة لعمار علي حسن فيما تعد الكلمة أداته الأصيلة في بناء النص الفاعل، والبنية المؤثرة في سعيه الحثيث مثل أي مثقف وطني لبناء واقع يستجيب للأحلام المشروعة لملايين وملايين المصريين ومن بينهم رفعت الذي جاء للقاهرة عله يجد لقدميه موضعا في الزحام.
ولأن المؤلف صاحب باع واهتمام أصيل بعالم التصوف ما كان له أن يتخلى عن نفسه الصوفي في هذه الرواية الجديدة ليعرج ببطل روايته ولو قليلا نحو هؤلاء الصالحين الذين أفسحوا له مكانا بينهم وأكل معهم دون أن يسأله أحد منهم عن شيء .. واحد فقط كما يقول رفعت: استوقفني عند الباب وقال: لا تنقطع عنا.
ورواية “باب رزق” هي الرواية الثامنة لعمار علي حسن بعد رواياته: جبل الطير و شجرة العابد و سقوط الصمت و السلفي و زهر الخريف و جدران المدى و حكاية شمردل ، إلى جانب أربع مجموعات قصصية هي: حكايات الحب الأول و أحلام منسية و عرب العطيات و التي هي أحزن ، وكتابان في النقد الأدبي: النص والسلطة والمجتمع و بهجة الحكايا، إلى جانب ثمانية عشر كتابا في التصوف وعلم الاجتماع السياسي، وله قيد النشر مجموعة قصصية عنوانها أخت روحي.
إنه إبداع مركب ومتراكم ومتعدد المستويات ووليد عشق لمصر وسيمكث في الأرض المصرية الطيبة لينفع الناس على امتداد أرض الكنانة فيما يمكن للقارئ أن يرى بيسر تجليات الفنان والباحث والمثقف الوطني في عناق التكامل لشخصية مبدعة نبتت من الأرض المصرية الطيبة وجمعت في نسغها النيلي ينابيع خبيئة يستخدمها كل حين ويمتاح منها ما يكفيه ويكفي قارئه المتطلع للذة الفن ونعمة المعرفة.