الرئيسية » فن وثقافة » رؤية ثقافية لظاهرة “الأطفال بلا مأوى”

رؤية ثقافية لظاهرة “الأطفال بلا مأوى”

سواء على مستوى الحكومة او الجماعة الثقافية المصرية يتصاعد الادراك بخطورة ظاهرة “الأطفال بلا مأوى”، أو “اطفال الشوارع”، وها هي رموز كبيرة في الثقافة المصرية تفتح هذا الملف الخطير.
وكان برنامج الحكومة الذي عرضه رئيس الوزراء شريف اسماعيل على مجلس النواب قد أكد على اعتزامه علاج “ظاهرة الأطفال بلا مأوى” وتطوير شبكات الأمان الاجتماعي ومد مظلة الحماية للفئات الفقيرة والضعيفة في سياق السعي لتأسيس مجتمع العدالة الاجتماعية.
وأكد الدستور الذي أقره شعب مصر على التزام الدولة برعاية الطفل وحمايته من جميع اشكال العنف والاساءة وسوء المعاملة والاستغلال الجنسي والتجاري كما يحظر كل صور العبودية والاسترقاق والقهر والاستغلال القسري للانسان.
ومع المشهد البرلماني الجديد في مصر بعد الانتخابات الأخيرة كان الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة قد تحدث عن أهمية اقرار سياسات “تحمي اطفال الشوارع من برد الشتاء وسكن المقابر”، وتساءل عن العدد الحقيقي لهؤلاء الأطفال، فيما تقدر احصاءات للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عدد “أطفال الشوارع” في مصر بنحو 16 ألفا.
ولئن كان الرقم النهائي لأطفال الشوارع في مصر لم يحدد بعد بصورة دقيقة، فإن الكاتب المسرحي بهيج اسماعيل يرى أن عددهم لا يقل عن المليون وهو حسب وصفه “رقم كبير ومخيف”، خاصة وأن “هؤلاء الأطفال طاقة عدوانية جاهلة وقابلة للانفجار في أي اتجاه”.
وفيما انعكست الظاهرة بقسوتها وتداعياتها في الصحف ووسائل الإعلام المصرية؛ أبدى الفنان التشكيلي عادل السيوي شعورا بالجزع والأسى وهو يتساءل بحزن عن كيفية التخلي عن الأبناء واجبارهم على الهروب إلى الشوارع بهذه القسوة.
أما جمال زايدة؛ الكاتب الصحفي بجريدة “الأهرام”، فلفت إلى احصاءات للجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء تشير إلى وجود أكثر من 17 مليون طفل يعيشون تحت خط الفقر، فيما تساءل بمرارة: “هل يمكن لوطن ان يرمي ربع أطفاله في الشوارع بلا رعاية صحية أو تعليمية أو تربوية؟!”.
وإذ عرض جمال زايدة بعض المشاهد الدالة على حدة مأساة أطفال الشوارع، موضحا أن هؤلاء الأطفال البؤساء يشكلون “خامة جاهزة للجريمة والإرهاب”، فقد خلص إلى “أننا أمام ظاهرة بالغة الخطورة ومشكلة تحتاج إلى مواجهة سريعة”.
وإذا كانت اشكالية الأطفال بلا مأوى تؤرق ضمير المجتمع، فإن ظاهرة “عمالة الأطفال” هي أيضا من الظواهر المثيرة للأسى، فيما توضح احصاءات للجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء أن حجم عمالة الأطفال بلغ في عام 2013 ما يصل إلى نحو 1,6 مليون طفل وأن عدد ساعات العمل لهؤلاء الأطفال يتجاوز 9 ساعات يوميا في المتوسط.
وكان الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة قد لاحظ انه مع حالة الانفلات الأمني في الشارع المصري عقب ثورة 25 يناير 2011 طفت على السطح قضية أطفال الشوارع الذين يجمعون الحجارة كل ليلة في مواجهات مع رجال الشرطة بلا أسباب.. فلا هم ساسة ولاهم ثوار، معتبرا أنهم فقط “ضحايا مجتمع لا يرحم”.
وفي سياق تشخيصه لظاهرة أطفال الشوارع، أوضح جويدة أن “أعمارهم تتراوح بين 7 سنوات و15 سنة”، مضيفا “ابحثوا عن ثلاثة ملايين طفل ينامون في الشوارع ولا أحد يعرف عنهم شيئا.. إنها قضية اجتماعية انسانية قبل أن تكون قضية أمنية”.
وأطفال الشوارع، كما تشير دراسات للظاهرة من منظور ثقافي، هي كتل تعاني من الاغتراب جراء الحرمان من أبسط معطيات الحياة الطبيعية والسوية، ومن ثم تعمد للممارسات التدميرية بجنوح انتقامي وكأنه الثأر بلا وعي من صانعي الاغتراب والحرمان ولتكون عنصرا فاعلا في مظاهر العنف الزاحف على أوجه الحياة اليومية.
وهؤلاء الأطفال في مصر يمثلون واحدة من أخطر وأقدم الأزمات الإنسانية والاجتماعية في الشارع المصري.. فأطفال الشوارع باتوا طرفا حاضرا دوما في مشاهد العنف في الشوارع وهي مشاهد لايمكن ان تنسب لأي سياق ثوري نبيل، فيما يرى معلقون أنها بمثابة حرب تدور رحاها لتفكيك المجتمع المنهك بالفعل جراء أحداث العنف، كما أثار بعض المحللين تساؤلات حول امكانية استغلال القوى المعادية لمصر لهذه الظاهرة المحزنة بغرض تكريس حالة الفوضى في شوارع المحروسة.
ولاحظ الكاتب والشاعر فاروق جويدة “أن هناك حلقة مفقودة في هذا العدد الرهيب من الأطفال الذين يخرجون كل ليلة إلى الشوارع”، فيما تساءل: “هل هناك جهات تنفق عليهم.. هل هناك أشخاص يحرضونهم.. وكيف اختاروا مكانا محددا أمام الفنادق الكبرى؟!”.
وقال فاروق جويدة: “اننا نتحدث عن ظاهرة أطفال الشوارع منذ سنوات ولم يسمع أحد”، منوها إلى أنه في الدول المتقدمة تقام مؤسسات كاملة لايواء هؤلاء الأطفال وتعليمهم؛ “حتى لا يتحولوا إلى ألغام إجرامية في المجتمع”.
فمشكلة أطفال الشوارع تعبر عن خلل بنيوي عميق في المجتمع هي من التجسدات الصادمة لمرحلة بأكملها تراكم فيها الفقر والمرض والجهل مع تدهور مريع على مستويات الرؤى والأداء والسياسات لمن تصدروا المشهد المصري حينئذ بجهالات وضلالات ما سمي بـ”الفكر الجديد”، أو أمسكوا بالعديد من المفاصل الحساسة للدولة أو باتوا في مواقع التأثير الفعلي على القرار.
أين ذلك من نموذج يتجلي في كتاب صدر بالانجليزية بعنوان: “حروب الرصاص: سياسات العلم ومصير أطفال أمريكا”، وهو كتاب يكرسه المؤلفان جيرالد ماركوفيتز ودافيد روزنر لمشكلة تزايد معدلات الرصاص في دماء الأطفال الأمريكيين بالعائلات الفقيرة، فيما أكدا أن المشكلة بمخاطرها الصحية تدخل في صميم قضايا العدالة الاجتماعية وتستدعي خطة لمواجهتها تبلغ تكاليفها 33 مليار دولار وتشارك فيها منظمات المجتمع المدني إلى جانب الحكومة.
وهل يمكن مع استمرار مشكلة أطفال الشوارع أن نتحدث بثقة عن المستقبل أو تصدر كتب حول رهانات المستقبل على غرار ما يحدث في الغرب حيث تتوالى الكتب الدالة في هذا الاتجاه مثل الكتاب الجديد الذي صدر بعنوان: “من يمتلك المستقبل؟”، وفيه يناقش المؤلف جونار لانير دور الشركات الرقمية العملاقة في مستقبل الغرب.
من هنا حق للباحث والخبير البارز بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية نبيل عبد الفتاح أن يقول في سياق أوسع نطاقا يتعلق بالضعف التكويني لنخبة الحكم خلال السنوات الطويلة للنظام السابق: “كان بعض الثقاة من الباحثين والكتاب ذوي المعرفة والتكوين الرفيع والخبرات والاتصال بما يجري في عالمنا والمنطقة ومصر يشيرون إلى مواضع الاختلالات البنيوية العميقة ويقدمون الرؤى والتصورات”.
ومع ذلك، فكما يقول نبيل عبد الفتاح:”كان خطاب الضحالة التي تصل في بعض الأحيان الى البلاهة سادرا في غيه لا يرى ولا يقرأ ولا يسمع ما يدور حوله”.
ويتساءل فاروق جويدة عن دور المجتمع المدني حيال هؤلاء الأطفال مضيفا”أين الجمعيات الخيرية وأين مراكز البحوث التي ينبغي أن ترسل خبراءها وسط هؤلاء الأطفال؟”، فيما تقول نيللي علي الباحثة في علوم الانثربولوجي بجامعة لندن والمتخصصة في دراسة أطفال الشوارع وذات الاهتمامات الثقافية العميقة بهذه القضية ان حياة هؤلاء الأطفال حتى في الملاجيء لا تفتقر فقط للتمويل ولكن الى الاهتمام والوعي المجتمعيين.
ومن المفارقات أن بعض رموز النظام الاستبدادي المخلوع وسدنته كانوا يسعون لتأسيس نوع من الشرعية الزائفة عبر التناول الاستعراضي لقضايا الطفولة، فيما كانت الشوارع تستقبل المزيد من الأطفال الذين يعانون من الجوع والمرض والأمية دون أن ينقذهم أو يخفف من حدة معاناتهم هذا النوع من الشكلانية الخيرية أو كرنفالات سيدات الصالونات الباحثات عن الشهرة وارضاء الذات الاستعراضية.
فالنخبة الفاشلة التي جرى التمكين لها قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير في ظل اجواء الفساد والمحسوبية والوساطات كانت عاجزة في الواقع عن التجديد في الرؤى والأفكار وأساليب العمل والحركة، وهي في ضعفها التكويني وافتقارها للمواهب والخيال المبدع، لم يكن بمقدورها أبدا أن تواجه اشكالية بهذه الخطورة، وما كان لها سوى ان تكتفي بلغو خطابها الاستعراضي البائس دون أن تهزها صدمات خطاب الواقع الموضوعي.
غير أن الاشكالية اكتسبت المزيد من الخطورة بعد ثورة 25 يناير ومع حالات الخروج الصارخ على القانون للحد الذي دفع العديد من الكتاب وأصحاب الطروحات الصحفية للقول بأن هذه الحالات تشكل تهديدا لوجود الدولة أو على الأقل لهيبتها.
وكما أوضح الكاتب والباحث المرموق السيد ياسين، فقد ذهب بعض الباحثين الذين تحدثوا عن ثورة 25 يناير إلى أن المرحلة الانتقالية تحولت لأسباب شتى إلى فوضى عارمة، فيما واجهت الثورة منذ قيامها عدة تحديات من بينها التحدى المتعلق بمخاطر التفكك الاجتماعي بما يصاحبه من غياب الأمن الإنساني.
وأشار السيد ياسين إلى أن التفكك الاجتماعي ينتج من الانفلات من المعايير والقيم بل والانقلاب الصريح عليها وممارسة سلوك غوغائي ورفع شعارات ثورية على غير أساس، فيما يقول جونار لانير في كتابه “من يمتلك المستقبل؟” ان الحلم المثالي للثورة في السياق الراهن ينطوي على وعد بالشفافية المجتمعية.
ويرى بعض المعلقين الذين تناولوا اشكالية الأطفال بلا مأوى أن المطلوب هو “حل شامل لهؤلاء الأطفال لأن أعدادهم كبيرة ويحتاجون إلى دراسة كاملة تتناول الجوانب الثقافية والتربوية والسلوكية بجانب إنشاء مدارس حرفية يتعلمون فيها حرفة تفيدهم وتفيد المجتمع”.
وقد يكون المطلوب أيضا إنشاء مؤسسة كبرى تشارك فيها الحكومة ورجال الأعمال وأهل الخير بحيث تجمع هذه الأعداد الضخمة من الأطفال ولا مانع أن يكون ذلك في احد المشروعات الكبرى مثل توشكى أو العوينات، وهناك يمكن توفير حياة ومناخ مختلف تحت إشراف مؤسسات ثقافية واجتماعية لإنقاذ هؤلاء الأطفال.
وفيما يؤيد الكاتب والشاعر فاروق جويدة هذه الرؤية لحل مشكلة أطفال الشوارع، فإن المشكلة تلقي بظلال قاتمة على المستقبل لأن هؤلاء الأطفال هم جزء من مستقبل الوطن وهم رجال الغد.
واشكالية كهذه بحاجة لخطة طريق تصدر عن تفكير عقلاني وروح نقدية ومشاعر انسانية بعيدا عن الرغبة في الإدانة.. فكما تقول الباحثة الجادة نيللي علي: “مازالت بوصلة اللوم مختلة”، مشيرة إلى أن البعض يوجه إصبع الإتهام إلى أطفال الشوارع لأنهم في الشوارع وليسوا في البيت متجاهلين كل الأسباب التي دفعتهم للشوارع.
إنها الظاهرة الأليمة بعنف شوارع ونداءات مخنوقة وشهقات جوع وبرد وخوف.. ولعل تحرك الحكومة جنبا إلى جنب مع الجماعة الثقافية تبشر بانتهاء ظاهرة أطفال الشوارع واغلاق هذا الملف الخطير بتحقق الأمل النبيل في أن يقضي كل الأطفال ليال هانئة في حضن الوطن الدافيء؟!.. إنها قضية اجتماعية وثقافية بالدرجة الأولى بقدر ما يتطلب حلها إرادة سياسية مدعومة بتحرك مجتمعي.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.