الرئيسية » صوت اليسار » صعود اليسار الجديد في أمريكا اللاتينية

صعود اليسار الجديد في أمريكا اللاتينية

قراءة في المتغيرات الذاتية والموضوعية الجديدة

شهدت بداية القرن الحادي والعشرين موجه غير مسبوقة من الانتصارات الانتخابية للمرشحين الرئاسيين اليساريين في امريكا اللاتينية، بدأت هذه الموجة في العام 1998 عندما انتخب هوغو شافيز رئيساً لفنزويلا. تبع ذلك النجاح السريع الذي حققه المرشح الاشتراكي ريكاردو لوغوس في تشيلي في العام 2000، وكذلك فوز زعيم حزب العمال (PT) لولا دي سيلفا في البرازيل 2002، ونيستور كيرشنر في الارجنتين 2003، وتابير فاسكوس عن الجبهة اليسارية (FA) في الاورغواي، وايغور موراليس في بوليفيا 2005 (اول رئيس من السكان الاصليين في تاريخ هذا البلد).

وفي عام 2006 عاد القائد الثوري دانييل اورتيغا والجبهة الوطنية الساندنيستية الى السلطة في نيكاراغوا، بينما فاز الاقتصادي عن الجناح اليساري رافييل كوريا في الرئاسة الاكوادورية. وبعد مضي عقد من الزمان سجل المرشحون اليساريون انتصارات غير متوقعة في البارغواي (فرناندو لوغو) والسلفادور (موريسيو فيونز)، والمنافسون الرئاسيون او في الاحزاب الذين تم اعادة انتخابهم في كل من بلدان فنزويلا (2000-2006)، وتشيلي (2006)، والبرازيل (2006-2010)، والارجنتين 2007، والاكوادور 2009، وبوليفيا 2009، والاوروغواي 2009. وبحلول عام 2009 أصبح ثلثي من سكان امريكا اللاتينية عاشوا تحت حكومات يسارية.

تأتي هذه النتائج كمؤشر على رغبة مواطني القارة اللاتينية في الجنوح صوب اليسار حتى وصف المراقبون ما يجري هناك بالتغيير الأحمر الذي يعم سماء القارة، وزاد في وصفهم للأحداث أن أمريكا الجنوبية تلتحف باللون الأحمر. ومن الجدير بالملاحظة أن انتصار اليسار لم يكن مقتصرا على الفوز بمقعد الرئاسة، فقد أصبح إئتلاف التشاور الديمقراطي يمثل الأغلبية للمرة الأولى في مجلس الشيوخ التشيلي، بحصوله على نسبة 57% من مقاعده، كما أصبح يشكل الأغلبية في مجلس النواب (63 نائبا من مجموع 120)، مما يؤمن لليسار الأكثرية في المجلسين، وإن بقيت للتحالف من أجل تشيلي إمكانية قيادة معارضة بناءة. ومن ضمن التجليات ايضا دلالات فوز مرشحة اليسار أن تفوز امرأة بموقع الرئاسة، سيما في بلد يعتبره الكثيرون من أشد دول أمريكا اللاتينية تمسكا بالتقاليد الاجتماعية المحافظة، وتسيطر عليه نزعة ذكورية، وعلى الأخص في مجال السياسة.

اسباب صعود اليسار في امريكا اللاتينية:

ان صعود اليسار في معظم امريكا اللاتينية الفناء الخلفي للولايات المتحدة خلال السنوات العشر الماضية، يتصل بعوامل ثقافية كتجذر الإرث اليساري في تلك البلدان منذ منتصف القرن المنصرم، علاوة على اعتبارات اقتصادية واجتماعية تتجلى في تدني مستوى المعيشة والتفاوت الطبقي الواضح في تلك البلدان جراء إخفاق تجارب التنمية الليبرالية المدعومة أمريكيا خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، إن المحرك الرئيس والعامل المشترك الأكبر الجامع لصعود اليسار في غالبية دول أمريكا اللاتينية كان هو تدني شعبية الولايات المتحدة في تلك الدول بشكل ملحوظ خلال العقدين الأخيرين على نحو ما أجمعت عليه استطلاعات الرأي التي أجريت في الولايات المتحدة ودول أمريكا اللاتينية على حد سواء. وبناء على ذلك، يرجع المحللون الانتصارات الانتخابية وصعود اليسار اللاتيني إلى أربعة أسباب رئيسة هي:

أولا، يأتي صعود اليسار كرد فعل على سياسات الليبرالية الجديدة بملامحها الرئيسة مثل تخفيض الدعم الحكومي للسلع الأساسية ولمدخلات العملية الإنتاجية ومحاولة جذب الاستثمارات الأجنبية، فضلاً عن التوسع في عملية الخصخصة. وتختلف التحليلات حول الجدوى الاقتصادية من هذه السياسات اذ أن معدلات النمو لا زالت أقل من مثيلاتها في مناطق أخرى من العالم مثل جنوب شرق آسيا، أو حتى مقارنة بدول أمريكا اللاتينية ما بين عامي (1940 -1980). أما على الصعيد الاجتماعي كانت مخرجات هذه السياسة غير محتملة بالنسبة للشرائح الأكثر فقراً وتجلت في تدهور مستوى الخدمات الصحية والتعليمية وتراجع الدخول. وفي هذا السياق يأتي الصعود اليساري الراهن كاستجابة لتلك السياسات، وبحثاً عن سبيل لعلاج آثارها الاجتماعية الفادحة.

اذ ازداد الفقر في بلدان أمريكا اللاتينية، على العكس ما كانت تروج لـه العولمة الرأسمالية تماماً. فالحكومات لم تجلب لهم الرفاهية، وهي عاجزة عن إعادة توزيع الثروة بشكل عادل. وهكذا، فإن 71% من الأمريكيين اللاتينيين يعتقدون أنهم محكومون من قبل جماعات صغيرة لا تراعي إلا مصالحها الخاصة ومصالح السوق. ويغذي هذا انقسام السكان إلى مجتمعين متصارعين، كما هو الحال في فنزويلا، وبوليفيا، والأرجنتين. وإذا كان سكان المنطقة يعتقدون أن حرية السوق يمكن أن تكون نموذجاً جيداً للتنمية، إلا أنهم يطالبون بتحويل الديموقراطية الانتخابية إلى ديموقراطية اجتماعية وتشاركية أكثر.

ولم تفلح الحركات والأحزاب اليسارية في تعرية شرعية الليبرالية الجديدة فحسب، بل وفي اعادة تنظيم صفوف القوى الاجتماعية والسياسية في المنطقة. وتمكنت الإضرابات والتعبئة الجماهيرية في بيرو عام (2000)، والتمرد الشعبي في الأرجنتين (2001)، والتمردات التي اتسمت بمشاركة سكان البلاد الأصليين في الإكوادور (1997،2000، 2005)، وبوليفيا (2003،2005)، من الإطاحة بأنظمة فاسدة وموالية للولايات المتحدة. ان هذه التعبئة الشعبية لما يمكن وصفه (باليسار الاجتماعي)، جعلت من الممكن انتخاب حكومات يسارية في الأرجنتين، والبرازيل، وفنزويلا وأوروجواي.

أن السبب الأكثر أهمية لتحول المنطقة نحو اليسار هو العجز في النمو الاقتصادي. فمع ان الرأي هو أن الإصلاحات خلال الخمسة وعشرين سنة الماضية والسياسات المالية القاسية والاستقلالية الكبيرة المعطاة للبنوك والانفتاح على التجارة والاستثمارات العالمية وتخصيص المشاريع والمؤسسات العامة وتجاهل استراتيجيات التطوير الاقتصادي والسياسات الصناعية، قد كان لها الأثر الناجح في ازدياد النمو، الا أن هذه الإصلاحات خلفت وراءها الكثير من الفقراء وانعدام المساواة. ونلاحظ أيضا اضمحلال النمو الاقتصادي، فمنذ عام 1960 حتى عام 1980 كان معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة 8%، مقارنة بكوريا الجنوبية التي حققت نمواً بمعدل الضعفين في نفس المدة، والأمر ذاته ينطبق على تايوان التي حققت نمواً بمعدل ثلاثة أضعاف. وكان ذلك كافياً لرفع معدل المعيشة بشكل ملحوظ لمعظم أمريكا اللاتينية. أما في المدة بين عامي (1980-2000)، فقد أصبحت نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي 9% فقط. وبين عامي (2000 -2005)، كانت النسبة 4%. فثمة جيل كامل وحوالي نصف أمريكا اللاتينية خسروا فرصة أية زيادة ملحوظة في معدلات مستوى المعيشة. فعلى سبيل المثال لو استطاعت البرازيل والمكسيك الاستمرار في النمو وفق معدلات ما قبل الثمانينات لكان بإمكانهما الوصول بمعدل دخل للفرد إلى نسبة توازي نسبة دخل الفرد الأوربي في هذا الوقت.

وشهدت تسعينيات القرن العشرين عودة الشعبوية مرة اخرى، بعد ان خفتت لعقدين كاملين بتبني رؤى اصلاحية ليبرالية جديدة نابعة من التيارات اليمينية على يد فيرناندودي كولور ميلو (1990-1992) في البرازيل، وكارلوس منعم في الارجنتين (1989-1990)، ولكن فشل السياسات الليبرالية التي تبنتها هذه التيارات اليمينية، كان البداية للصعود المدوي للتيارات اليسارية الشعبوية في القارة، وكان ابرز تجلياتها وصول هوجو شافيز للسلطة في فنزويلا.

ثانياً: شكلت عملية الدمقرطة المتسارعة، والتي بدأت بشائرها في قارة أمريكا اللاتينية منذ نهاية الثمانينيات مع تحلل الأنظمة العسكرية الديكتاتورية قوة دفع لصعود اليسار. فمن جهة، أدت هذه العملية المتسارعة بما صاحبها من تعاظم نفوذ الاتحادات العمالية والمنظمات الفلاحية ومجالس الأحياء وغيرها من منظمات المجتمع المدني، إلى وضع مواقع النفوذ التقليدية والأحزاب القائمة والدوائر المسيطرة على عملية صنع القرار داخل الجيش والبيروقراطية، إلى جانب الأجنحة التقليدية داخل المؤسسات القضائية -والتي شكلت نخبة ما قبل التحول الديمقراطي في هذه الدول- محل التساؤل والنقد. وكان طبيعياً أن تنجرف هذه العملية النقدية بالمزاج الانتخابي ككل تجاه اليسار. ومن جهة أخرى، أدى اقتران عملية الدمقرطة تلك مع تفاقم مؤشرات اللامساواة الاجتماعية إلى تبنى الحركات السياسية المشكلة حديثاً لخطاب اجتماعي بالمعنى الواسع للكلمة.

ويشبه بعض المحللون هذا الوضع في أمريكا اللاتينية بالوضع في غالبية مجتمعات أوروبا الغربية مع نهاية القرن التاسع عشر. اذ اقترن النفوذ الواسع للاتحادات العمالية والأحزاب الاشتراكية بأشكال متنوعة من اللامساواة على أساس العرق والنوع والدخول، وهو ما أدى بهذه الاتحادات إلى الانجراف يساراً بهدف تفكيك أبنية اللامساواة تلك وإكساب السياسة ملمحا شعبيا في مواجهة الطابع البرجوازي الفوقي للعبة الديمقراطية. فالنقطة المهمة هي ان بدأ تطبيق ديمقراطية واسعة الانتشار وتعزيز انتخابات ديمقراطية كطريق للوصول الى السلطة، ستؤدي عاجلاً ام آجلاً الى تحقيق انتصارات لليسار خاصة بسبب الوضع الاجتماعي والعرقي للمنطقة.

مثال على ذلك ، هناك اثنان من أصل ثلاثة بوليفيين يعيشون تحت خط الفقر، و60% منهم هم من السكان الأصليين (أكثر من ثلاثين أثنية)، كما أن 60 % من سكان بوليفيا هم من الهنود الأميركيين، يضاف إليهم 25% من المهجنين، في حين لا تتجاوز نسبة ذوي الأصول الأوروبية الـ15% من السكان، ومع ذلك استأثر هؤلاء بحكم البلاد منذ الاستقلال عن إسبانيا قبل 150 عاماً. وكان تفاقم الأوضاع المعيشية في البلاد نتيجة فشل السياسات الإصلاحية الموجه أميركياً من خلال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، في طليعة العوامل التي أسهمت في فوز الرئيس البوليفي موراليس.

ثالثاً: شكل انهيار الاتحاد السوفيتي بيئة مواتية لصعود اليسار اللاتيني. فقد أدى اختفاء التهديد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة إلى إعادة نظر جذرية في السياسة الأمريكية تجاه أمريكا اللاتينية. اذ لم يعد اليسار آنذاك يشكل تهديداً للأمن القومي الأمريكي او توصف الحركات اليسارية بصفة التبعية الدائمة للسوفييت، وهو ما فتح الباب أمام انخراط اليسار في سياسات وتحالفات انتخابية واسعة بغير انقطاعات مربكة من الانقلابات العسكرية المدعومة أمريكيا، على خلاف السياسة الأمريكية منذ خمسينيات القرن الماضي (مثل انقلاب بينوشيه على الرئيس المنتخب سلفادور الليندي في تشيلي 1972).

رابعاً: ان مناهضة السياسة الأميركية من أهم أسباب صعود اليسار. فتبني قادة أمريكا اللاتينية لسياسة أميركا في المنطقة والتي تدعم الرأسمالية وتستنزف موارد دولها، قلل فرص القضاء على الفقر وتحسين مستوى معيشة المجتمعات داخلها، في مقابل ان تنجح في بسط سيطرتها على الموارد والنفوذ داخل الأروقة السياسية الحاكمة. من جانب اخر، تبنى القادة الجدد او القادة القدامى الجدد سياسات مناهضة لأميركا، مما اكسبهم شعبية كبيرة أدت بجانب العوامل السابقة الى فوزهم في الانتخابات الرئاسية. فقد شككت الولايات المتحدة من فوز (هوغو شافيز) بالسلطة في الأعوام (1998 – 2005)، وحاولت دفع المعارضة الى مقاطعة الانتخابات.

إن التطورات اليسارية التي أسفرت عنها العملية الانتخابية في أمريكا اللاتينية، يعزز المحور المناهض للولايات المتحدة الأمريكية في القارة الجنوبية. وعلى الرغم من أن بلدان أمريكا اللاتينية اعتنقت نهج الليبرالية الاقتصادية في سياق العولمة الرأسمالية التي تقودها واشنطن، فإن شعوبها زادتها العولمة فقراً على فقر، وتفاقمت عندها التفاوتات الاجتماعية الحادة، عوض عن الواقع المتردي الذي أوقعته فيها الديكتاتوريات العسكرية بعد مرحلة الاستقلال.

إلى جانب ما تقدم، هناك الإرث التاريخي من العداء الأمريكي اللاتيني لواشنطن، الذي يدركه حكام وشعوب أمريكا اللاتينية، باستثناء المنتفعين منهم بالنفوذ الأمريكي في بلادهم، وهم شريحة محدودة من رجال الأعمال والتجار وذوي التوجهات الليبرالية المؤمركة، أن واشنطن قد صارت أكثر نزوعا باتجاه تجاهل مصالح دول أمريكا اللاتينية في أعقاب انتهاء الحرب الباردة، ثم انغماسها في الحرب ضد الإرهاب؛ حيث تعتقد أجنحة عديدة في واشنطن أن أهمية أمريكا اللاتينية قد تراجعت بالنسبة لواشنطن، ومن ثم لم تعد تستجدي الاهتمام الأمريكي المفرط والحرص الشديد على استرضاء شعوبها وحكامها.

لذا يرى معظم مواطني هذه الدول أن واشنطن لم تعد تركِّز في علاقاتها مع تلك البلدان في حقبة القطبية الأحادية، إلا على التقليل من تبعات الجوار الجغرافي مع تلك الدول على المصالح الأمريكية اذ تهتم واشنطن بمنع تصدير المخدرات والمواد المحرمة من تلك البلدان إلى الأراضي الأمريكية، وتحجيم عمليات الهجرة غير المشروعة، وليس أدل على ذلك من توقيع الرئيس بوش في شهر تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٠٦ على مشروع إقامة جدار عازل بين بلاده وتلك الدول بطول الحدود الجنوبية للولايات المتحدة مع المكسيك. كما تنشغل واشنطن بتأمين وارداتها من مصادر الطاقة من دول أمريكا اللاتينية، إضافة إلى تأمين الممرات المائية الاستراتيجية لسفنها وبوارجها، وتعزيز حضورها الاستراتيجي في جيوب القارة الأمريكية الجنوبية.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.