الرئيسية » مقالات » عبد الناصر إسماعيل يكتب: الغش بين الأمن والأخلاق والتمرد (3/3)

عبد الناصر إسماعيل يكتب: الغش بين الأمن والأخلاق والتمرد (3/3)

تناولنا بُعدان في طريقة حل ظاهرة الغش بامتحانات الثانوية العامة وهما البعد الأمني والبعد الأخلاقي، وهما البعدين الذين لم يحققا نجاح في مواجهة ظاهرة الغش حيث لم يتناولا جذور المشكلة في صورتها الأولى وأضافا إليها أبعاد كثيرة لا تمت لها بصلة، ويبدو أن هذا منهج عمل تتبعه الدولة لعدم قدرتها على مواجهة المشكلة فعليا نتيجة عجزها أو أنها تروج للخلاص من المشكلة بالقفز إلى سياسات جديدة لا تعلن عنها، فحتى هذه اللحظة لم نطرح السؤال البسيط والأولى لماذا يلجأ الطلاب إلى الغش؟ وهل حاولت وزارة التربية والتعليم إطلاع المجتمع على أسباب لجؤ الطلاب للغش؟ هل تمتلك الدولة دراسة تربوية حقيقية تكشف للمجتمع المصري أسباب الظاهرة؟

في الحقيقة لا نمتلك أى دراسة علمية وتربوية توضح لنا أسباب الظاهرة رغم خطورة ما يحدث على المجتمع والدولة فضلا عن إهدار منظومة قيم هامة وضرورية لأى مجتمع وهي قيم العدل والمساواة.

فكالعادة فكرنا في كيفية التعامل مع الظاهرة أمنيا وأخلاقيا بمنطق السيطرة والمنع وليس بمنطق استكشافها وفهم آليات بقاءها طوال سنوات، تعاملنا معها بمنطق المتربص وليس بمنطق المراقب والملاحظ، تعاملنا معها بمنطق أبوى وليس تربوي، رأينا ما يحدث من جميع الجوانب ولم نكلف أنفسنا أن نرى الظاهرة من منظور الفاعل الحقيقي وهو الطالب.

حقيقة الأمر، هناك زاوية أخرى نحاول أن تلقى الضوء من خلالها على ظاهرة الغش بوصفها ظاهرة للتمرد، فالطالب يعلن تمرده على منظومة تقتل العقل والروح وتقطع كل الخيوط مع المستقبل، فهى (أى المنظومة) لا تمكن الطالب من أى شيء له علاقة بالعمل أو الحياة وفي نفس الوقت تتحكم فيه وفي مستقبله وتسمح لنفسها أن ترسم ملامح روحه وعقله، تطالبه بالخضوع لمنطق التسليم بالأمر الواقع والخضوع لمفرداتها في التقويم بورقة امتحان لا تقيس فيه سوى قدرته على أن يكون آلة تسجيل كبيرة، ولا ترى فيه سوى مجرد رقم يدخل إليها في الصف الأول الابتدائي ويخرج منها مفروما بما يسمى الثانوية العامة، لا يهم المنظومة سوى الخضوع من جميع العاملين فيها لمحاولاتها البائسة في التجمل.

وفي نفس الوقت تسمح الإدارة السياسية للتعليم بممرات آمنة وباهظة التكاليف للخروج من القتل الممنهج للروح والعقل والمستقبل، بل تسمح أيضا بخرق ما تدعى التمسك به من محاربة الغش عندما تخصص لجنة للكبار لكى يمارسون الغش علانية وبالقانون.

كل هذا لا يدفع الطالب فقط للتمرد بل يدفع الأسرة المصرية كلها للتمرد على منظومة تعليم رديئة.

وللتمرد تجليات كالتظاهر الذي أصبح أحد ملامح التمرد المتصاعد، فقد تظاهر طلاب الثانوية العامة اعتراضا على محاولة وزارة التربية والتعليم إعادتهم إلى المدارس بقرار العشر درجات حضور وسلوك دون دراسة كالعادة، في حين أن هؤلاء الطلاب لم يروا في المدرسة سوى سور يحيط بهم يقلل من حريتهم يعطلهم عما قرارته المنظومة نفسها لتقيم الطلاب بقدرتهم على الحفظ والاسترجاع، هم يريدون الوقت والوزارة تريد السيطرة هكذا المعادلة، فتنتصر إرادة الطلاب، وتظاهروا ضد غلق مراكز الدروس الخصوصية لأنهم يؤمنون أن المدرسة لم تعد قادرة على القيام بدورها وسط تعدد الفترات وازدحام الفصول، هم يريدون ما يساعدهم على جمع درجات الامتحان والمدرسة تقوم بتدريس منهج بغض النظر عن درجات الامتحان، الوزارة تقليدية والطلاب برجماتيون، وتظاهروا ضد الامتحانات الصعبة وتظاهروا ضد ارتفاع مجاميع القبول بالجامعات واتهموا الوزارة بأنها تدفعهم إلى ممرات أخرى – الجامعات الخاصة – تكلفهم ما لا طاقة لهم به.

طالبوا بإلغاء مكتب التنسيق، تظاهروا ضد وزارة تقنن الغش، وكانت شعاراتهم موحية لما وصل إليه حال الطالب والأسرة المصرية، (أحنا الطلبة ودى كلمتنا، الغو التنسيق نرجع بيتنا) (هي وزارة غش في غش، شوفنا الذل بمليون وش) (ومستقبلنا راح ببلاش، وابن الباشا طلع غشاش) (مش عارفين يدوروها، جابوا احلامنا ودمروها).
وأحيانا يأخذ التمرد صورة الغش والتفنن في طرقه بمساعدة الأهل والمعلمين وباستخدام القوة أو المال أو الطرق الحديثة. فالأسئلة الرئيسية في عقول الغالبية من الطلاب عديدة منها لماذا احترم ورقة امتحان لا تكشف قدراتي الحقيقية؟ لماذا تقيم وزارة التعليم جانب واحد ولدى العديد من الجوانب الأخرى تتجاهلها؟ لماذا التزم بقواعد الامتحان وأنا أراه عديم القيمة؟ لماذا التزم بقواعد السلوك وهناك لجان تنتهك فيها كل قواعد السلوك؟ كيف يمكن أن أنافس ودائرة الفساد تتوسع حول تورتة امتحانات الثانوية العامة؟ هل من العقل أن أكون أنا الملتزم الوحيد بكل القواعد العادلة؟ تكشف هذه الأسئلة حجم الانهيار الذي وصلت له منظومة تنتظر تصريحا بالدفن لا أكثر.

أن ما نشهده من تمرد بألوان متعددة لن يتوقف طالما ظلت المنظومة والسياسات التعليمية تفتقد للعدالة والمساواة والقيم التي تحصن روح الأنسان طالما تجاهلت التغييرات التي حدثت في المجتمع طوال سنوات عديدة، طالما ظلت تضغط بقوة على الشرائح الاجتماعية الأضعف التي ينتمى لها غالبية الطلاب في تعليم الفقراء. طالما ظلت الممرات الآمنة هي ممرات للطبقات القادرة فقط، طالما ظل التعليم أحد أدوات الأفقار والتمييز في مصر.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.