الرئيسية » تقارير وتحقيقات » في الذكرى الـ95 لميلاد جاك شتاينبرجر.. عمل بالتدريس وغسل الأجهزة بحثا عن الطعام.. وحصل على نوبل في الفيزياء.. ورفض “العداء للشيوعية”

في الذكرى الـ95 لميلاد جاك شتاينبرجر.. عمل بالتدريس وغسل الأجهزة بحثا عن الطعام.. وحصل على نوبل في الفيزياء.. ورفض “العداء للشيوعية”

كتب – د. عبدالهادي محمد عبدالهادي:

في 25 مايو الجاري احتفل “جاك شتاينبرج” الفيزيائي الأمريكي من أصل ألماني، بعيد ميلاده الخامس والتسعين، وكان قد حصل- مع “ليون ليدرمان” و”ملفين شوارتز”- على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1988، لاكتشافه نوع ثان من النيوترينو المرتبط بالجسيم دون الذرى المعروف باسم “الميون”، وتفسير البنية الثنائية لليبتونات.

اليهودي الفقير.. ميلاده ونشأته

ولد “جاك شتاينبرج” في 25 مايو عام 1921 في مدينة باد كيسينجين بولاية بافاريا- بألمانيا، في ذلك الوقت كان والده قائدا لجوقة الترتيل ومرشدا دينيا للأقلية اليهودية في المدينة، وهو الموقع الذي ظل يشغله حتى اضطر للهجرة في عام 1938، وكانت أمه التي تصغر أبيه بـ15 عاما ابنة لتاجر ولدت في “نورمبرج” وعلى غير عادات ذلك الزمان، درس في الجامعة، وعمل في إعطاء دروس خاصة في اللغتين الانجليزية والفرنسية للسياح والوافدين ما ساعد في توفير دخل للأسرة.

عاش “جاك”، وأخواه، طفولتهم في ظل حالة من الاكتئاب العام سادت ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، لكن الحياة أخذت منعطفا دراميا جديدا عندما كان في بداية المراهقة.

ويتذكر “جاك” –بحزن- الدعاية النازية ضد اليهود وملصقاتهم التي تحرض ضدهم، وبوصول النازيين إلى السلطة عام 1933 وصل الاضطهاد المنهج لليهود إلى أقصى مداه، فسنت القوانين التي بموجبها تم طرد الأطفال اليهود من المدارس العامة والجامعات.

هروبا من المحرقة

في العام التالي، وفرت الجمعيات الخيرية اليهودية في أمريكا المأوى لحوالي 300 طفل من الفارين من جحيم النازية، وفى يوم الكريسماس عام 1934 وصل “جاك” وأخوه إلى نيويورك، ومنها إلى شيكاجو حيث استقبلهم هناك السيد “بارنيت فارول”، تاجر الحبوب الذي أخذهم إلى منزله، وساعدهم على الاستمرار في الدراسة، كما سمح في عام 1938 باستقبال الأب والأم والأخ الأصغر، وأخيرا اجتمع شمل الأسرة فيشيكاجو، ووفر لهم “فارول” محلا صغيرا للتجارة حقق لهم دخلا ضئيلا، لكن حياتهم البسيطة لم تشعرهم بأن هناك مشكلة.

درس “جاك” في مدرسة “نيوترير” المتميزة، التي كانت تضم ملاعب رياضية وحمام سباحه وكافيتريا، فضلا عن المعلمين الممتازين، ثم درس الهندسة الكيميائية لمدة عامين في معهد أرمور العسكري (معهد إلينوى للتكنولوجيا حاليا)، كان طالبا ممتازا، ومع ذلك مرت عليه أوقات صعبة وحالات من الاكتئاب العارضة، لكنها انتهت بحصوله على منحة للدراسة المسائية في جامعة شيكاجو.

لكنه كان مضطرا للعمل لمساعدة الأسرة، فكانت تجربة البحث عن عمل قاسية على شاب طموح في العشرين من عمره، طرق كثيرا من الأبواب لكنه كان دائما يجد الأبواب مغلقة في وجهه، وقبل أن يصاب بالإحباط وجد عملا في غسيل الأجهزة الكيميائية في أحد المختبرات الصيدلانية، براتب قدره 18 دولارا أسبوعيا.

كان يدرس الكيمياء في المساء، ويعمل في متجر العائلة الصغير في عطلات نهاية الأسبوع، وظل هكذا لمدة عام حتى أوصى أساتذته وزملاءه بأن يسمح له بحضور محاضرات الكيمياء صباحا، وفى عام 1942،تخرج بدرجة بكالوريوس في الكيمياء.

في الجيش الأمريكي

عندما هاجمت القوات اليابانية “بيرلهاربور” في الولايات المتحدةفي 7 ديسمبر 1941، حصل على دورة سريعة في نظرية الموجات الكهرومغناطيسية، والتحق بعدها بالجيش الأمريكي ليتم تكليفه بالعمل في مختبر الإشعاع بمعهد “ماساتشوستس” للتكنولوجيا.

وخلال عامين أتيحت له الفرصة أن يدرس بعض الدورات الأساسية في الفيزياء، وتعلم أسس عمل الرادار، فقرر اعتبارها مهنته، لكنه لم يطلق سراحه من الجيش إلا في عام 1945 بعدما أعلنت اليابان استسلامها، ليعود إلى جامعة شيكاجو.

العودة للجامعة

كان شتاينبرجر قد قرر اعتبار الفيزياء النظرية موضوعا لدراسة الدكتوراه، فحضر محاضرات لكل من “إنريكو فيرمى” و”إدوارد تيلر” و”جريجور فينتزل” و”زاخريازن”، ووصف محاضراتهم لاحقابأنها “سلاسل من الاحجار الكريمة”، وكان الجو العام بين الطلاب والأساتذة رائعا، فسادت روح التعاون بين الجميع، لدرجة أنه كتب في سيرته الذاتية أنه يشعر أنه تعلم من زملاءه أكثر مما تعلم من أساتذته.

لم يكن قد تبلور في ذهنه ما يمكن أن يقدمه في أطروحته، وجاء الفرصة عندما كلفه “فيرمى” بدراسة مشكلة واجهت تجربة قام بها كل من “روسي” و”ساندس” لتوقيف “ميونات” الأشعة الكونية، حيث لم يجدا القيمة التي كانا يتوقعانها لثابت الاضمحلال الإشعاعي.

قام جاك بعملية تصحيح وتدقيق للعوامل الهندسية في التجربة، ومع ذلك ظل ثابت الاضمحلال بعيدا جدا عن قيمته المتوقعة، فاقترح أنسبب ذلك  ربما يعزى إلى أن طاقة الإلكترون المضمحل هي أقل مما نعتقد في ضوء نموذج الاضمحلال ثنائي الجسيم، وانه يمكن التحقق من ذلك بالتجربة، ولما رفض “روسى” و”ساندس”فكرته، طلب منه “فيرمى” أن يبدأ فورا العمل لفحص فرضيته تجريبيا.

استغرقت التجربة من بدايتها إلى نهايتها عاما واحدا فقط، ففي نهاية صيف عام 1948، كان قد برهن تجريبيا على أن “الميون” هو ناتج عن اضمحلال ثلاثة جسيمات، إلكترون واثنين من النيوترونات، وليس جسيمين فقط كما كان يعتقد، وهكذا ساعد “جاك” في وضع الأساس التجريبي لمفهوم القوى النووية الضعيفة، وحصل على دكتوراه الفلسفة في فيزياء الجسيمات الأولية، التي صارت تعرف لاحقا باسم فيزياء الطاقات العالية.

في برينستون

بعدها، انتقل شتاينبرجر للعمل في معهد برينستون للدراسات المتقدمة تحت إشراف “روبرت أوبنهايمر”، لكنه كان عاما محبطا لم يجد فيه أي تعاون أو قبول من زملاءه كما لم يجد ما يمكن أن يقدمه، وقبل نهاية العام، وجد موضوعا للبحث هو اضمحلال “الميزونات”عبر النيوكلونات المتوسطة.

عام في بيركلى

وفي عام 1949، دعاه “جيان ويك”، الذي كان زميلا له في مرحلة الدكتوراه في جامعة شيكاجو، أن يعمل مساعدا له في جامعة كاليفورنيا- بيركلى، وهناك كان مختبر “لورانس” للإشعاع يتمتع بإمكانات رائعة ومتكاملة، وخلال عام واحد قضاه هناك،طور معارفه بالجسيمات الأولية، وعمل على معجل الإلكترونات (السينكروترون)، كما تمكن من القيام بأول تجاربه في الانتاج الضوئي “للبيونات”، ودلل تجريبيا على وجود بيونات متعادلة كهربيا، كما نجح في قياس متوسط العمر للبيونات.

قضى عاما واحدا فقط في “بيركلى”، ففي عام 1950، طلب منه أن يوقع على وثيقة العداء للشيوعية والالتزام بمكافحتها، لكنه رفض التوقيع وغادر الجامعة.

في جامعة كولومبيا

في صيف عام 1955م انتقل إلى جامعة كولومبيا، وهناك تمكن بواسطة السيكلوترون من دراسة الميزونات من النوع (T)، كما درس الحركة المغزلية وخاصية “التشابه” للبيونات المتعادلة والمشحونة، وتشتتها.

في كل هذه التجارب، كان يستخدم العدادات الوميضية، لكن مع أوائل الخمسينات، اكتشف “دون جلاسر” تقنية “الغرفة الفقاعية” ككاشف نووي، وفى عام 1954 بدأ جاك في دراسة ما يمكن أن تقدمه هذه التقنية الجديدة للفيزياء النووية، كما تعاون مع كل من “ليدرمان” و “شوارتز” في عدد من التجارب المهمة في الجسيمات الأولية التي قاموا بها في مختبر “نيفيس” بجامعة كولومبيا، وكانت سببا في حصولهم لاحقا على جائزة نوبل.

كانت تجاربهم ثورة حقيقية في عالم الجسيمات الأولية، خصوصا فيما يتعلق بالنيوترينو. و”النيوترينو” هو جسيم دون ذرى، ليس له كتلة سكون، او كتلته صغيرة جدا، وكان معروفا أنه يوجد نيوترينو مرتبط بالإلكترون، لكن تجاربهم الرائدة اكتشفت نوعا ثانيا، وأثبتت أنه يوجد على الأقل نوعان من النيوترينو، أحدهما مرتبط بالإلكترون، والثاني مرتبط بالميون. (والميون أيضا جسيم دون ذرى صغير الكتلة).

العودة إلى أوربا

وفى عام 1968 عاد جاك إلى القارة العجوز لينضم إلى المركز الأوربي للبحوث النووية في “سيرن”، وعمل بنشاط في بناء معجل الليبتونات لدراسة تصادم الإلكترونات مع أجسامها المضادة المعروفة باسم البوزيترونات، والتي أكدت صحة ما ذهب إليه “ستيفن واينبرج” في نظريته للمجال الموحد، التي سعى فيها لتوحيد القوى الكهربية مع القوى النووية الضعيفة في نظرية واحدة.

تزوج جاك مرتين، كانت الأولى “جوان بوروجارد” التي أنجبت له ولدين، وفى عام 1986 انضم إلى هيئة التدريس والبحوث في جامعة “بيزا” الإيطالية، وتزوج من إحدى تلميذاته “سينثيا آلف” التي أنجبت له ولدا وبنتا.

نشر خلال عمره ثلاثة كتب هامة ضمنها نظرياته واكتشافاته في عالم الجسيمات الأولية، وهى ” خروج اثنين من النيوترينوات” عام 1962، و”فيزياء الطاقات العالية للنيوترينوات”، و”إعداد كواشف الليبتونات” عام 1981، فضلا عن عشرات البحوث المنشورة.

انتخب عضوا بأكاديمية “هايد لبرج” للعلوم، والأكاديمية الأوربية للعلوم،والجمعية الأمريكية للفنون والعلوم، وحصل على عدد من درجات الدكتوراه الفخرية من جامعات داخل وخارج الولايات المتحدة، والعديد من الجوائز والأوسمة وميداليات التكريم منها الميدالية الوطنية للعلوم عام 1988م، وجائزة نوبل في الفيزياء في نفس العام.

واكتملت عائلة الجسيمات الأولية

بعد سنوات من اكتشاف نيوترينو الميون، اكتشف “مارتن بيرل” نوعا ثالثا من النيوترينو المرتبط بالجسيم دون الذرى المعروف باسم جسيم “تاو”.

وأصبحت هذه الجسيمات الستة: الإلكترون- الميون- جسيم تاو، مع النيوترينوات المرتبطة بها، والجسيمات المضادة: البوزيترون- ضد الميون المضاد- جسيم تاو المضاد، مع النيوترينوات الثلاثة المضادة، تشكل معا ما يعرف بعائلة الليبتونات (Leptons)، والتي تخضع لتفاعلات القوى النووية الضعيفة.

بعدها، برهن “موارى جيلمان”على وجود عائلة أخرى من الجسيمات الأولية- تسمى الهادرونات (Hadrons) تتألف من كوراكات (Quarks)، وتخضع لكل من تفاعلات القوى النووية الضعيفة والقوية معا، وهكذا أصبحت الليبتونات والهادرونات، هما المكونات الأساسية للمادة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.