الرئيسية » مقالات » محمد شيرين يكتب: ما تبقى من مؤتمر شرم الشيخ

محمد شيرين يكتب: ما تبقى من مؤتمر شرم الشيخ

إن لم تستح، فأفعل ما شئت

شرم الشيخ، مدينة السحر والجمال حيث السماء الصافية والمياه الزرقاء التى تتلألأ فى ضوء الشمس والقمر على حد سواء وهى أيضاً معروفة بأنها أكبر مدينة سياحية فى مصر إن لم يكن فى الشرق الأوسط ككل.

ولكن شرم الشيخ كانت كذلك موقع أكبر عملية خداع شهدها الاقتصاد المصرى على مر ما لا يقل عن الأعوام المائة الماضية وهى التى سيسجلها التاريخ تحت مُسمى “مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى”.

المؤتمر الذى زعمت الحكومة فى حينها أنه جلب 182 مليار دولار استثمارات أجنبية ستقوم بإنعاش البلاد وانتشالها من عثرتها.

إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث ولم يتم حتى اليوم، بعد ما يقرب من عامين ونصف، تنفيذ مشروع استثمارى واحد ولم يدخل مصر على سبيل الاستثمار خمسة دولارات فكة حتى، ناهينا عن 182 مليار وكل ما تم هو أن تلقت مصر بعض المعونات الخليجية التى أتُفق عليها أثناء فعاليات المؤتمر وشرعت بعض الشركات الأجنبية الكبرى – وفى مقدمتهم “سيمنس” الألمانية – فى البدء بأعمال متعلقة بمجال الطاقة والبنية الأساسية ولكنها جميعها تمولها الدولة المصرية بالتمام والكمال من جيوب مواطنيها ويأتى معظمها على شكل قروض من مؤسسات التمويل الدولية سيظل أحفادنا يسددون فوائدها لسنوات طويلة وربما لن يصلوا أبداً إلى أصل الدين. وفى أفضل الأحوال توجد هناك القليل من المنح.

صحيح أن هذه النوعية من المشروعات شديدة الأهمية ولم يكن سيكون فى تكاليفها الباهظة أدنى مشكلة لو كان قد صاحبها بالفعل ولو كسر من الاستثمارات الخرافية التى وعدونا بها وخرجوا ليعلنوها على الملأ بالصوت العالى حتى صاروا أشبه بمن “يلم نقطة الفرح”.

وتراجعت الحكومة نفسها بعد نحو عام من إنتهاء المؤتمر عن الرقم السابق وأعلنت على استحياء أن قيمة الاتفاقيات الفعلية لم تتعدى قيمتها حاجز 30 مليار دولار إلا بقليل، منها 13.5 مليار على هيئة مذكرات تفاهم ألغيت فيما بعد جميعها دون استثناء والبقية الباقية لا يوجد لها أثر حتى لحظة كتابة هذه السطور إلا بعض المشروعات الخاصة بالإسكان ما فوق الفاخر يتم تنفيذها تحديداً على أيدى تحالف “ماونتين فيو وسيسبان السعودية” و”وادى دجلة للتنمية العمرانية” و”بالم هيلز للتعمير” وهى كلها مشروعات كان قد تم الاتفاق عليها مسبقاً أو أنها كانت ستتم فى جميع الأحوال بصرف النظر عن مؤتمرات ضخمة ومُكلفة مُعدة للاستهلاك الإعلامى ليس إلا وغرضها الأساسى هو الترويج والدعاية للنظام الحاكم واختراع إنجازات له غير موجودة على أرض الواقع.

وبطبيعة الحال كان لهذا أثر مُدمر على مقدار الثقة الذى يُمكن لأى مستثمر أجنبى أن يضعه فى الاقتصاد المصرى الذى يعد بالكثير ولا يفى حتى بالقليل بدءً بمشروع المجرى الملاحى الإضافى لقناة السويس الذى أثبت فشلاً ذريعاً على كامل الخط ويعتبر أكبر عملية إهدار للمال العام فى تاريخ مصر منذ بناء الأهرامات الكبرى ووصولاً إلى مشروعات وهمية أخرى مثل استزراع مليون ونصف المليون فدان الذى أجمع كافة أساتذة الاقتصاد الزراعى على أنه مستحيل التنفيذ عملياً وبالفعل لم يتم تحقيق أى تقدم فيه منذ أن أعٌلن.

ولكن المشكلة فى الواقع أكبر كثيراً من مجرد هروب المستثمرين الأجانب الجادين الذى لا أرى أن هناك حاجة ماسة لقدومهم أساساً ولكنها تمتد إلى خلق حالة من الترقب لدى مجتمع الأعمال المحلى الذى ظل طويلاً ينتظر التعاقدات المُغرية التى ستأتيه من وراء هذه المشروعات الجبارة وتوقف لفترة ليست بالقصيرة عن ممارسة أنشطته بطريقة طبيعية كى يكزن جاهزاً للخير الوفير الذى سيهبط عليه من السماء وهو ما عمق حالة الركود بشكل عام وخاصة بسوق العمل ونحن فى الحقيقة لازلنا نعانى من توابع ذلك حتى لحظة كتابة هذه السطور رغم تحسنات طفيفة فى نسب البطالة أغلبيتها ذات طابع موسمى أو مؤقت غير مُستدام مثل عمالة المقاولات والتشييد العمرانى.

والأدهى من ذلك كله هو ما فعلته الحكومة من خلال مؤتمر شرم الشيخ بعموم الشعب. فأنا لازلت أذكر جيداً كيف كانوا بسطاء المصريون يقبعون أمام الشاشات التليفزيونية فى المنازل وعلى المقاهى ليتعابوا فعاليات هذا الحدث الجلل كما كان النظام يسوق له، أملين أن تنتشلهم نتائجه من المأزق الوجودى ألذى وجدوا أنفسهم فيه بعد مرور حوالى عشرة أشهر فقط من تولى عبد الفتاح السيسى رئاسة الجمهورية وكانوا وقتها لا يزالوا يؤمنون بأنه أتى مُنقذاً لهم وليس مورطاً كما اتضح فيما بعد.

مؤتمر شرم الشيخ فى جوهرة تعبير شديد البلاغة عن النهج الاقتصادى وأيضاً السياسى الكلى الذى تدأب حكومات السيسى على اتباعه، أى خلق فقاعات فارغة غايتها الوحيدة ابهار الشعب وكسب ولائه على خلفية وعود لا محتوى فعلى لها مثل الأطفال الذين فى أعياد الميلاد يطلقون بالونات فى الهواء قد تكون ألوانها مُبهجة وشكل طيرانها لطيف ولكنها لن تحتمل “شكة دبوس”.

بعبارة أخرى: الاقتصاد المصرى حالياً لا يملك أى عمود فقرى أو بنية تحتية حقيقية يمكنه الاستناد إليها وقت الأزمات وهذا هو السبب تحديداً فى أن كل ما يظهر من مشاكل تتضاعف تداعياتها لنجد أنفسنا أمام ما لا طاقة لنا به.

وبما أننى لم أعد أجد طائلاً من وراء الأمل على أن تتخذ هذه الحكومة أى شكل من أشكال التعقل الاقتصادى – ولو القدر الأدنى منه – أناشدهم فقط أن يتركوا شرم الشيخ والغردقة ودهب ونويبع وشانهم مستقبلاً بدلاً من الزج بأجمل بقاع هذا الوطن فى مهاترات عجيبة غير قابلة للتصديق. دعونا نستمتع برياضات الغوص والسباحة ومشاهدة الشعب المرجانية وقضاء السهرات مع الأصدقاء بدلاً من إساءة استغلالها للخداع والتضليل. كفانا أننا لم نعد نصدق حتى أنفسنا.

القليل من الحياء يا حضرات ليس إلا.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.