الرئيسية » مقالات » محمد شيرين يكتب للتحالف : الإقتصاد رهينة النظام

محمد شيرين يكتب للتحالف : الإقتصاد رهينة النظام

نسمع فى مصر اليوم كثيراً عبارات مثل تسييس القضاء وتسييس الإعلام وتسييس الجهاز البيروقراطى للدولة ولكن قلما يتحدث أحد عن تسييس الاقتصاد حيث يعتبر معظم الناس أن الاقتصاد، أو بالأصح الاستفادة منه، غاية فى حد ذاتها وتكون السياسة هى الوسيلة المُستخدمة للوصول إلى تلك الأهداف. وهذا بالطبع حقيقى فى أحوال كثيرة ولكن العكس ليس بنادر أيضاً، بل أصبح أمر شائع فى ظل النظام الذى يحكم مصر حالياً أن يستخدم أدوات اقتصادية لخدمة أغراضه السياسية وترسيخ دعائم حكمه واستقراره والتغطية على أخطاءه الفادحة – ولو مؤقتاً – وإبقاء عامة الناس فى صراع وجودى دائم حتى ينشغلوا عن كافة ما يجرى فى البلاد من انتهاكات صارخة للحقوق والحريات طيلة طبعاً ما توجد هناك قبضة أمنية صارمة تمنعهم من التعبير عن سخطهم علانية. وهذه جميعها فى النهاية من السمات والخصائص المعروفة تاريخياً فى كافة النظم القائمة على قمع الآلة العسكرية. ومنذ أن فُتحت أبواب قصر الإتحادية أمام الرئيس الحالى عبد الفتاح السيسى ونحن نسمع من مؤيديه ومريديه الكلام الكثير عن كيف أنه يُضحى بشعبيته ويخاطر بمنصبه حتى حينما يتخذ إجراءات شديدة القسوة سعياً نحو الإصلاح الاقتصادى الشامل الذى سيستفاد منه المواطنين كافة فى نهاية الأمر بينما الحقيقة المُرة – وليس “الدواء المر” الذى يتحدثون عنه دائماً – هى أن كل هذه الإجراءات لا تستهدف سوى الإبقاء على النظام الحالى لأطول فترة مُمكنة وأن الوحيد المُطالب بتقديم تضحيات فعلية هو الشعب وبسطاءه فى المقدمة بطبيعة الحال. فالتوسع فى الاستدانة الخارجية من مؤسسات التمويل الدولية (البنك الدولى، صندوق النقد الدولى، بنك التنمية الأفريقى إلخ) على سبيل المثال تأتى كجزء لا يتجزأ من محاولة لإعادة صياغة العلاقات المصرية الخارجية بشكل عام ومحاولة إيجاد توازن ما فيها. فبينما يتجه الحكم المصرى تارة إلى غرماء الغرب التاريخيين مثل الصين وروسيا ويجاملهم بعقد شراكات وصفقات مربحة لهم قبل أن تكون ذات فائدة لمصر، نجده يفعل الشئ نفسه تقريباً مع دول غربية مهمة مثل ألمانيا وفرنسا ويشترى منهم أسلحة هو غالباً ليس بحاجة إليها من الأساس (كانت من ضمنها صفقة لشراء غواصات) وينقذ إحدى أعرق الشركات الألمانية (سيمنس) من الإفلاس بتكليفها ببناء محطات كهربائية باهظة الثمن ثم يأتى بعدها بأشهر قليلة ويوقف العمل بمشروعات أخرى لتوليد الطاقة كانت قد بدأت فعلياً ويُصرح بأن الطاقة الموجودة تزيد عن الحاجة ولا تكفى أصلاً قدرات الشبكات القائمة على نقلها وتوصيلها للمستهلك. ولكن تعى هذه الحكومة ويعى رئيس الدولة جيداً بأن هولاء لن يرضوا أبداً بأن تكون مصر شريكاً لهم، ناهينا تماماً عن أن تكون نداً، بل أنها يجب أن تظل خاضعة وتابعة فيعرضون عليها القروض السخية فى مقابل تنفيذ مجموعة من الشروط حتى يظلوا داعمين لنظام الحكم القائم ويغضون البصر عن جميع سياساته الأخرى. ومن هنا تستفيد دول الغرب والشرق على ثلاثة محاور. الأول ألا تخرج مصر عن طوعها السياسى والثانى أن تدعم اقتصادها من خلال مبيعات وتعاقدات بمليارات الدولارات والثالث أن تأخذ هذه الأموال مرة ثانية وبفوائدها حينما يحل آجل سداد القروض، أى أننا فى الحقيقة ندفع “الصاع صاعين وحبة” ولا حامل للأعباء سوى الناس ولا مستفيد سوى النظام (والدوائر القريبة منه) وهو يريد أنم يُفهمنا بعدها أنه لم يكن هناك طريق سوى ذلك للنهوض بمصر واقتصادها فى مشهد أقل ما يقال عنه أنه مثير للسخرية. وعقب ذلك نفاجأ بإصدار الحكومة لأوراق دين حكومية (أذون خزانة وسندات) ذات فائدة تتعدى حاجز 20% وبالمليارات كل أسبوع لتتمكن من الوفاء بالتزاماتها الأساسية حتى وتأخذ أحياناً بما يزيد عن احتياجها الفعلى وكأن موعد السداد لن يأتى أبداً ودون أن تفكر ولو للحظة بأنهم هكذا يزيدون من الدين المحلى وسيصلون به حتماً إلى أرقام فلكية سنحتاج عدة أجيال لسداده وربما لن نتمكن من سداده أبداً حتى نجد أنفسنا أمام “تيران وصنافير” جديدة. يبدو أن القائمين على شئون البلاد وبمقدمتهم فى سياقنا هذا وزير المالية ومحافظ البنك المركزى ثم بالطبع رئيس الجمهورية نفسه لم يعبأوا أبداً بقراءة كتب التاريخ والاقتصاد وإلا لعرفوا أنهم يتجهون بخطى سريعة نحو الهاوية ويأخذوننا جميعنا معهم والسبب الوحيد هو الهروب من افتضاح أمرهم وظهور فشلهم أمام الشعب بما لا يدع مجالاً للشك، بل أنهم فى الحقيقة لم يتوقفون حتى أمام توريط القطاع المصرفى الذى صار اليوم “غرقان لشوشته” ويُشبه “النكتة السمجة”، خاصة البنوك الحكومية “الأهلى المصرى” و”مصر” و”القاهرة”. تكفينا معرفة أن أكبر بند فى إجمالى حجم الجهاز المصرفى هو الاستثمار فى أدوات الدين الحكومية هذه وليس فى مشروعات مُنتجة ذات قيمة مُضافة للاقتصاد القومى، تحديداً 1.557 تريليون جنيه بنسبة 36.9% للأولى فى مقابل 1.343 تريليون جنيه بنسبة 31.8% للثانية . بمعنى آخر: نحن هنا لا نتحدث حتى عن هيكل اقتصادى نيوكلاسيكى أو نيوليبرالى أو رأسمالى ولكننا فى الحقيقة أمام اللاهيكل أساساً وأمام دورة رأسمال شذت عن كل القواعد المتعارف عليها وقائمة فقط على حلقات من الاستدانة المستمرة حيث يقترض الجميع من الجميع دون أى إنتاج حقيقى وندخل بذلك من أوسع الأبواب إلى مرحلة خطرة للغاية لا تعد فيها النقود التى نتحدث عنها موجودة سوى افتراضاً. كما تدفع الطبقات المحدودة والمعدومة الدخل كل يوم سعر باهظ كى يضمن النظام استمرار تأييد كبار رجال الأعمال – أو من يحلو له تسميتهم “مستثمرين” – عبر إعطائهم مزايا ضريبية وأراضٍ مجانية وتعويضات عن فروق العملة ما بعد تعويم الجنيه وما إلى أخر كل ذلك من إجراءات تحول مصر إلى بلد أصبح العمل بها مرتبطاً بموقف سياسى مؤيد بوضوح لنظام الحكم أو ألا يكون هناك موقف سياسى على الإطلاق. ومهما كان النظام الاقتصادى الذى نتبعه، فهذا لا يستقيم أبداً مع أيهم بما فى ذلك النظم الرأسمالية بأشكالها المتعددة، اتفقنا معها أم اختلفنا. كما تتعمد الدولة أيضاً باستمرار نشر معلومات عن الاقتصاد هى فى حدها الأدنى مغلوطة وفى أقصاه كاذبة كى توحى للناس أن هناك إنجازات على المستوى الاقتصادى، فتلجأ إلى أفكار وصفها المعتدل هو أنها “غريبة” مثل إقامة مؤتمرات عالمية لجذب الاستثمارات (وأزعم أن مؤتمر شرم الشيخ كان الأول من نوعه فى التاريخ العالمى) وحفر مجارى ملاحية إضافية بقنوات قائمة لا حاجة إليها ولا عائد من ورائها ومشروعات أخرى لن تُنفذ اساساً كمشروع زراعة 1.5 مليون فدان أو أنشاء عاصمة إدارية مزعومة تُصرف عليها المليارات ولا يأتى منها شيئاً سوى منطقة إسكان فاخر جديدة مقصورة على الأثرياء ومن سيعملون خدماً لديهم. تسييس الاقتصاد بهذه الطريقة – الفجة فى الحقيقة – نهايته ضرراً جماً للاقتصاد نفسه حيث أنه على المدى الطويل سيفقد مصداقيته دولياً ومحلياً ولن يخدم حتى النسق الرأسمالى الاستبدادى البحت الذى تقول الحكومة أنها تسعى لتحقيقه وإن كانت تغلف كلامها بعبارات مثل “السوق الحر” و”الإصلاح الاقتصادى”. لا أقول بالمرة أن الاقتصاد ينفصل عن السياسة، على العكس من ذلك تماماً حيث أن هناك ارتباط عضوى فيما بينهما إلا أن دور الاقتصاد لا يُمكن أن يكون دعم نظام سياسى ما أى كان نوعه ولكن دوره الطبيعى – وأنا هنا أفترض جدلاً أن نظام السوق الحر هو الحل السحرى لجميع الإشكاليات الاقتصادية رغم اختلافى أنا شخصياً على ذلك بشدة – أن يعنى أولاً بخلق سوق ذات حد أدنى من القوة الشرائية بحيث تكون قادرة على استيعاب وتصريف المنتجات محلية الصُنع أو حتى المستوردة. ومهمة السياسة الرئيسية هنا هى أن تمهد الطريق لذلك بإيجاد بيئة مناسبة له. أما ما يحدث فى مصر – وقد حاولت التعرض له بإيجاز فى الأسطر السابقة – فهو العبث ذاته وستكون له عواقب وخيمة وقتما تنفجر الفقاعة الوهمية التى تُقدم لنا على اعتبار أنها العبقرية التى ما بعدها عبقرية.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.