الرئيسية » مقالات » محمد عبدالحليم يكتب: طلعت حرب مش راجع (1)

محمد عبدالحليم يكتب: طلعت حرب مش راجع (1)

“يا لروعة بريق عيناها ، تلك الفتاة الخمرية ، في ملابس مدرستها الثانوي، تلك الابتسامة التي لم تلوثها متاعب الحياة بعد ،غمازاتيها التي تعدو الدنيا وتمضي بينهما في فرح ابدي ، راحت كنسمة صيف عابرة وتركتني وحيدا أغازل طيفها امام لافتة في المترو كتب عليها طلعت حرب راجع “.

حين رأيت تلك الافتة التي لم تحمل اي امارات سوى صورة كبيرة لطلعت حرب مصحوبة بعبارة طلعت حرب راجع ، لم تكن الحملة الدعائية الضخمة التي دشنها بنك مصر ، قد ظهرت للنور بعد ، بخلاف تلك اللافتات التي ملئت المترو وبعض الواجهات في شوارع القاهرة ،لم اشغل بالي كثيرا بتلك المبادرة المحتملة ،فهي لم تعدو لي غير حملة بائسة اخرى ستنضم لاخواتها من المحاولات البائسة للحكومة والتي طالما انتهت بخيبة أمل أخرى للمتعلقين بها ، وأكثر ما شغل بالي وقتها هو لماذا طلعت حرب تحديدا؟ ولماذا الارتداد لتجربته دون سواه ؟

لماذا طلعت حرب؟

قبل التعرض لتجربة طلعت حرب الاقتصادية ، ينبغي علينا اولا استعراض الحالة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع المصري في عهد الاحتلال البريطاني لمصر والتي مهدت لظهور تجربة طلعت حرب .

اجمالا نستطيع وصف حالة المجتمع المصري آنذاك بالتخلف الاقتصادي والظلم الاجتماعي ، فعلى مستوى الاقتصاد ،أتسم المجتمع المصري بالاتي ذكره،

انخفاض مستوى الدخل السنوي للفرد ، يكفينا ان نعرف ان هذا المتوسط بلغ في مصر عام 1952 حوالي 120 دولار ،بينما بلغ هذا المتوسط في اسرائيل حوالي 470 دولار وفي الولايات المتحدة الامريكية حوالي 1870 دولار.

انخفاض نصيب الصناعة التحويلية في الناتج القومي ،حثي لم يساهم قطاع الصناعة سوى ب10.7 % من الناتج القومي المصري حتى عام 1954.

التبعية الاقتصادية للغرب ،ونقصد بالتبعية الاقتصادية للغرب هو ارتباط الاقتصاد المصري بنمو وتوسع الاقتصاد الخارجي والبريطاني بالاخص ،ويكفينا للتدليل على تبعية الاقتصاد المصري للاقتصاد الانجليزي آنذاك هو تحويل مصر لمزرعة قطن كبيرة لمصانع الغزل والنسيج في انجلترا ،حيث احتل نصيب القطن في اجمالي الصادرات المصرية 75% قبل ثورة يوليو .

واما عن الظلم الاجتماعي وتفاوت توزيع الثروة والدخل وقتها فحدث ولا حرج ،ويكفي للقارئ الكريم ان يعلم انه وصلت قيمة ما تملكه 100 أسرة فقط من المصريين والاجانب وما استرد منهم بالتأميم والمصادرة والاصلاح الزراعي حوالي ألف مليون جنيه ، وقت كان سعر كيلو اللحمة قرش ونصف .

تجربة طلعت حرب

نشأ طلعت حرب في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية سالفة الذكر ، وهي ما جعلته يؤمن بأن اولى خطوات التحرر من الاستعمار ،هي تمصير اقتصادنا الواقع في براثن الاجانب والمحتلين .

بدأ طلعت حرب دعواه في عام 1906 بالدعوة لانشاء نظام مالي مصري خالص لخدمة ابناء مصر والسعي نحو التحرر من القيود الاقتصادية التي فرضها الاستعمار.

في عام 1908 استطاع تأسيس شركة التعاون المالي برأس مال وطني بهدف تقديم قروض مالية للشركات الصغيرة المتعثرة ماليا .

في عام 1911 اصدر طلعت حرب كتابه علاج مصر الاقتصادي وانشاء بنك للمصريين ، الذي عبر فيه عن رؤيته لضرورة انشاء بنك للمصريين يخدم المشاريع الانتاجية ويواجهه التحديات الاقتصادية التي يواجهها المنتجون المصريون ،ولكن الحرب العالمية الاولي 1914 حالت دون تنفيذ فكرته.

وها هي رياح التغيير تاتي مع ثورة 1919 وتعيد فكرة انشاء بنك مصري براس مال مصري  الى الحياة مرة أخرى ، لياتي يوم الثلاثاء 13 ابريل 1920 ليعلن عن تأسيس بنك مصر برأس مال قدره 80 الف جنيه ، كاحد اهم مكتسبات ثورة 1919.

ويكفي لقارئنا الكريم ليعلم حجم هذا الانجاز الكبير الذي تحقق بانشاء بنك مصر ، ان فكرة انشاء بنك مصري ظل حلم يراود الكثيرين منذ عهد محمد علي الذي شرع في تاسيس اول بنك مصري ولكنه توقف عن الاستمرار في فكرته كغيره من سائر المشروعات بعد ان تم ضرب تجربته في 1840 ،ليأتي طلعت حرب ويحمل الحلم الغالي الى ارض الواقع .

ناهيك عن دور البنوك الاجنبية في نهب الاقتصاد المصري ونزح فائضه الاقتصادي للخارج ،وعلى رأسها البنك الاهلي الذي يعتبر الاداة الرئيسية للانجليز والذي تم بها تمويل المجهود الحربي الانجليزي في مصر على حساب الاقتصاد المصري ، خلال الحربين العالميتين الاولى والثانية ، حيث عمل الانجليز على ربط الجنيه المصري بالجنيه الاسترليني واتبعوا قاعدة تحويل العمليتين دون قيود ،وقد ادى هذا الربط الى تمكين بريطانيا من الحصول على اية كمية تشاء من النقد المصري بمجرد تقديم اذونات على الخزانة البريطانية وذلك بدلا من تقديم الذهب او السلع المادية كما هو الاصل ، وبتلك الوسيلة الشيطانية تمكنت بريطانيا من تمويل مجهودها الحربي في مصر دون ان تتكلف شيئا تقريبا ، اللهم الا ديونا تتراكم عليها لصالح مصر ذادت عن 400 مليون جنيه استرليني كونت ما يعرف باسم مشكلة الارصدة الاسترلينية .

كذلك تحكم تلك البنوك في مصادر الائتمان بمصر وهو ما حال دون تقديم قروض للمنشئات الصناعية مما أدى الى تخلف الجهاز الانتاجي في مصر ولاسيما قطاع الصناعة التحويلية.

ومن هنا جاءت اهمية الدور الكبير الذي لعبه بنك مصر في تنمية اقتصادنا المصري ، فقد عمد البنك منذ لحظة انشاءه على دعم المشروعات الانتاجية في مصر ، فبعد عامين فقط من تاسيسه قام طلعت حرب بتاسيس اول مطبعة مصرية عام 1922 ،لتتوالى بعدها المشروعات التي انشأها البنك مثل شركة مصر للنقل البري وشركة مصر للنقل النهري وشركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى ،كما اقام البنك مصنع في بني سويف لحلج القطن وانشا البنك شون لتخزين القطن في كافة محافظات مصر .

كذلك ساهم البنك في انشاء شركة مصر للتمثيل والسينما وشركة مصر لاعمال الاسمنت ومصر للصباغة ومصر للمناجم والمحاجر ومصر لتجارة وتصنيع الزيوت ومصر للمستحضرات الطبية ومصر للالبان والتغذية ومصر للكيماويات ومصر للفنادق ومصر للتامين ،كما انشا طلعت حرب شركة بيع المصنوعات المصرية لمنافسة الشركات الاجنبية، وغيرها الكثير من المشروعات التي ساهمت في بناء اقتصاد وطني ناشئ كان بامكانه المضي قدما نحو الازدهار لولا ضرب الاحتلال لتجربة طلعت حرب وبنك مصر العظيمة ،والتي انتهت بتقديم طلعت حرب لاستقالته من رئاسة البنك علي اثر تعرض البنك لخطر الافلاس بعد ان سحب صندوق توفير البريد المصري جميع ودائعه من البنك ، تزامنا مع حالة الكساد الاقتصادي الذي صاحب بوادر نشوب الحرب العالمية الثانية ،وبعد ان رفض البنك الاهلي اقراض بنك مصر مقابل محفظة الاوراق المالية لمواجهة ازمة نقص السيولة التي هددت بنك مصر آنذاك .

وهكذا تم ضرب تجربة طلعت حرب بعد ان تآمرت عليه سلطات الاحتلال والحكومة المصرية برئاسة علي ماهر الخصم الرئيسي لمصطفى النحاس زعيم حزب الوفد الداعم القوي لطلعت حرب .

واخيرا بقي لنا الاجابة على التساؤل الاتي ، وهو لماذا لاقت تجربة طلعت حرب كل هذا النجاح الكبير قبل ضربها ؟

تكمن الاجابة عن هذا السؤال في وجهة نظري المتواضعة الى نوعين من الاسباب وهما ،

اولا الاسباب الداخلية في مصر ،حيث جاء تاسيس البنك في ظل موجه المد الثوري التي تفجرت مع ثورة 1919 والتي ارغمت الاحتلال البريطاني على القبول بفكرة انشاء بنك للمصريين.

كذلك استهانة سلطات الاحتلال بقدرة طلعت حرب ورفاقه على انشاء بنك مصري خالص قادر على منافسة البنوك الاجنبية بمصر ،وللتدليل على تلك الاستهانة نذكر ما جاء على لسان احد مستشاري سلطات الاحتلال بمصر وقتها ،موجها كلامه لطلعت حرب ، “انك تتكلم بلغة مظاهرات اهل الشوارع والذي يصلح للشارع لا يصلح في اعمال البنوك” .

ثانيا الاسباب الخارجية والمتمثلة في تراخي الضغط الخارجي للدول الغربية وعلى راسها بريطانيا على الاقتصاد المصري ،بسبب انخفاض الدخل وانخفاض القدرة على الاستيراد والتصدير في الدول الغربية وقتها ،لخروجها لتوها من الحرب العالمية الاولى ،والكساد العالمي الكبير 1929 الذي ضرب الراسمالية العالمية في عقر دارها ، وهو الذي سمح لتجربة طلعت حرب في مصر بمحاولة تنمية اقتصادية جديدة كما هي الحالة لمحاولات فلسطين وسوريا ولبنان والعراق في تلك الفترة ،وهو ما ساعد تلك الدول في تبني سياسات حمائية لحماية صناعاتها الوليدة في تلك الفترة ، حيث شهدت تلك الفترة بزوغ مبدا القومية الاقتصادية في كل بلد عربي على حده ،كانعكاس لسيادة مبدا القومية الاقتصادية في اوروبا ودخول بلدانها في حروب اقتصادية فيما بينها .

وبعد تعرضنا لتجربة طلعت حرب الاقتصادية وتجربة بنك مصر العظيمة في دعم الاقتصاد المصري ، هل يمكننا تصور استنساخ تجربة مماثلة لتجربة طلعت حرب في الفترة الراهنة ، كما تزعم إدارة البنك والحكومة المصرية الحالية ؟

هذا ما سوف نتعرض له في المقال الثاني .

محمد عبد الحليم
باحث اقتصادي ، عضو حزب التحالف الشعبي الاقتصادي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.