أقر مجلس الشعب فى جلسته بتاريخ 18 ديسمبر 2017 قانون التأمين الصحى بعد محاولات لإصداره منذ عام 2005.
وتصف الحكومة إنفاق 13 عاما فى نقاش القانون بالوقت الضائع لأن من حق الشعب تأمين صحى اجتماعى جيد. لكنها تنسى أو تتناسى أن العائق أمام تمريره هو المعارضة الشعبية الضخمة التى لقيها طوال تلك الأعوام. لماذا؟ لأنه من المعروف أن أعباء التأمين الصحى المالية توزع على ثلاثة أطراف:
المواطن، وأصحاب الأعمال، والحكومة. ومعارضة المواطنين والمدافعين عنهم أتت كل تلك المدة رفضا للأعباء الثقيلة التى تلقيها على كاهل المواطن ولا يقدر عليها مما يعيق إتاحة الخدمة للمرضى حين الاحتياج بشكل ميسر.
ما هى الأعباء التى ألقيت على كاهل المواطن فى القانون الذى تم إقراره؟ أولا: زيادة الاشتراك. كان اشتراك العامل 1% من مرتبه واشتراك صاحب العمل 3% بالإضافة إلى 1-3% اشتراك إصابات العمل، تدفع ضمن التأمينات الاجتماعية لكل طرف. بينما اقتصر اشتراك صاحب العمل على 4% فقط (3% اشتراك و1% فقط إصابات عمل) تضاعف اشتراك العامل حتى فاق اشتراك رب العمل: فهو يدفع 1% اشتراكا لنفسه، و3% لزوجته إذا كانت لا تعمل، و1% لكل طفل ممن يعولهم.
أى أن العامل الذى لديه أربع أولاد يدفع 8% من مرتبه اشتراك تأمين صحى! وبهذا تصبح مصر الدولة الأولى (والوحيدة) عالميا التى يبلغ اشتراك العامل فيها ضعف اشتراك رب العمل، رغم أن العامل هو الطرف الأضعف اقتصاديا.
ثانيا: لا يقتصر ما يدفعه العامل على الاشتراك (كما هو الوضع فى القانون الحالى)، ولكن يزيد عليه المساهمات أى نسبة من سعر كل خدمة يحصل عليها: 10% من سعر الأدوية، ومثلها من سعر التحاليل، ومثلها من سعر الأشعات بحد أقصى 750 جنيها لكل منها، وهذا فى كل شهر وفى كل عيادة. أى إذا احتاج المواطن إلى الكشف فى عيادتين فى نفس الشهر (عيون وقلب مثلا) من الممكن أن يُطَالب المواطن بحد أقصى 2250 جنيها فى كل عيادة، أى 4500 جنيها!!! وفى العمليات والحجز بالمستشفى يدفع 5% من قيمة الفاتورة بحد أقصى 350 جنيها فى المرة! بهذا ينسف القانون المبدأ الأساسى للتأمين الصحى: وهو دفع اشتراك حتى لا يضطر المواطن حين المرض إلى صرف مبالغ لا يملكها أو تضلعة أو تمنعه من تلقى الخدمة! حتى صاحب المعاش (وأغلبهم يقل معاشه عن 1000 جنيه شهريا) مطالبين بدفع تلك المبالغ! ولا يعفى منها سوى مرضى السرطان والأمراض المزمنة فقط!
رجال الأعمال لا يتحملون أى عبئ سوى 4% اشتراكات و50 جنيها قيمة الكشف على كل موظف جديد ومتابعة الكشف على الأمراض المهنية.
والحكومة تخلصت من مسئوليتها عن الأطفال وطلاب المدارس وألقتها على أولياء الأمور رغم أن هذه هى مسئولية كل حكومات العالم التى تطبق نظم التأمين الصحى الاجتماعى لأن التنمية مستحيلة بدون التنمية البشرية التى تعتمد على تعليم وصحة النشأ ليصبحوا قادرين على العمل وعلى الخدمة فى جيش الدفاع عن الوطن. كما أن الحكومة تحللت من التزامها الدستورى بأن يبلغ الإنفاق على الصحة 3% على الأقل من الناتج القومى الإجمالى يتزايد تدريجيا حتى يبلغ النسبة العالمية (6%) وما زال حتى الآن يدور حول 2% فقط!
ولكن هذا ليس كل شيئ: فالحكومة تقول أن ضعف مستوى خدمة التأمين الصحى ناجم عن نقص الميزانية، حيث يبلغ متوسط ما ينفق على المواطن المؤمن عليه حاليا 111 جنيه سنويا، بينما سيبلغ فى القانون الجديد 1400 جنيها سنويا من أجل تقديم خدمة جيدة، فهل هذا صحيح؟ تحسين الخدمة يحتاج إلى تمويل ولكن ليس إلى مضاعفة المبلغ حوالى 13 ضعفا! أما السبب الحقيقى فهو أن كل المستشفيات الحكومية فى النظام الجديد سوف تتحول إلى مستشفيات تهدف للربح وتقبض فى كل إجراء تماما مثل المستشفيات الخاصة!!
مستشفيات الشعب التى بنيت بعرقه ومن ضرائبه تتاجر فى مرضه وتتربح منه! لأن الحكومة تحدد سعرا موحدا تشترى به الخدمة من القطاع الحكومى والخاص!!! وسيتحدد ذلك السعر بواسطة هيئة تسعير ربعها من مقدمى الخدمة فى القطاع الخاص (أصحاب المستشفيات الخاصة) وربعها على الأقل من خبراء التسعير بالسوق، أى بالخدمة المربحة!
تقول الحكومة أن الأرقام ناتجة عن دراستها الاكتوارية لكن فرضية الدراسة فاسدة منذ البدء لأنها تنص على تحميل كل الخدمة بالربح وتحول الطب من خدمة إلى سلعة حتى فى القطاع الحكومى! والمذهل أن أحدا لم يقف أمام هذا التعارض فى المصالح لأصحاب القطاع الخاص الذين يبيعون الخدمة بينما يشتركون أيضا فى تحديد سعرها فيحددونها بأعلى سعر ممكن!!
وتعد الحكومة بجودة الخدمة عن طريق تشكيل هيئة للرقابة والاعتماد تتقاضى أجرا من المستشفيات الحكومية لكى تعطيها شهادات الجودة، وليس أن ترى أن مهمتها رفع مستوى الجودة للمستشفيات العامة باعتبارها مهمتها، وليس بحرمان المستشفيات بعد ثلاث سنوات من الجودة لكى لا يكون هناك حل لها سوى خصخصتها (!) دون أن تعالج المشاكل الجوهرية للخدمة الصحية فى مصر: عجز أَسِرَّة المستشفيات أكثر من 50% وعجز الأطباء 30% وعجز التمريض 55%.
لكن كل هذا لا يعنى أن المعركة من أجل قانون تأمين صحى عادل قد انتهت! أولا مازال هناك طلب إعادة مناقشة فى مجلس النواب للمادة 40 من القانون الخاصة بالتمويل. ثانيا هناك مجلس الدولة لمراجعة القانون من حيث مطابقته أو مخالفته للدستور.
ثالثا إن أخشى ما نخشاه هو الأمن والسلام الاجتماعيين. لقد كان أهالى المرضى فى الاستقبال حينما يطالبون بشراء دواء ناقص أو يموت لهم مريض نتيجة الإهمال يضربون الأطباء والتمريض، بل وأحيانا يكسرون أقسام الاستقبال أوالرعاية المركزة، فماذا يفعل مثل هؤلاء حين تطالبهم المستشفى بمئات وآلاف الجنيهات وهم مؤمن عليهم وحوالى ثلثىّ مجتمعنا تقع تحت خط الفقر؟!
وتطالب لجنة الدفاع عن الحق فى الصحة بالمطالب الآتية:
• نطالب مجلس النواب بإعادة مناقشة موضوع التمويل إذا كانوا يخشون حقيقة على السلم والأمن الاجتماعيين
• نطالب مجلس الدولة بملاحظة تناقض قانون تحويل الطب من خدمة إلى سلعة مع المادة 18 من الدستور
• نناشد رئيس الجمهورية بعدم التصديق على القانون وإعادته لمجلس النواب لإعاده بحثه من جديد
• نطالب بأن يقتصر ما يدفعه المواطن على الاشتراك فقط دون مساهمات أو بمبالغ رمزية وليس بالمئات والآلاف
• نطالب بأن تتحمل الدولة مسئوليتها عن علاج الأطفال وتلاميذ المدارس ضمانا للتنمية وتخفيفا عن المواطنين
• نطالب برفع ميزانية الصحة إلى الميزانية الدستورية ووصولها خلال عامين أو ثلاثة إلى المعدل العالمى 6%
• نطالب بتوحيد الهيكل الصحى الحكومى فى هيكل تأمينى واحد غير ربحى يقدم الخدمة بالتكلفة وليس محملة بالربح لأنها مستشفيات الشعب ولا يجب أن تتاجر عليه فى مسألة المرض
• نطالب بأن تكون هيئة الرقابة والاعتماد مسئولة بحكم عملها على حل مشاكل جودة المستشفيات باعتبارها مهمتها التى تتقاضى أجرا عليها وليس مقابل أرباح تقع فى النهاية على عاتق المنتفع، وبدلا من أن يصبح الحرمان من شهادة الجودة للمستشفيات الحكومية غطاءً لخصخصتها.
لجنة الدفاع عن الحق فى الصحة
ديسمبر 2017