غالبا ما كانت الحلول الأمنية لظاهرة ما تعبيرا عن حالة عجز تتفاقم طرديا مع تفاقم الظاهرة، والغش في امتحانات الثانوية العامة هي هذه الظاهرة التي نتحدث عنها في مقالنا الثاني، ونتناول هنا بعدا جديدا لمواجهة هذه الظاهرة وهو البعد الأخلاقي الذي تبناه قطاع واسع من المجتمع وبعض وسائل الاعلام.
ولا أبالغ أن قلت هو الحل الرسمي لمناهج التعليم في مصر عندما تواجه مشكلة وهو الحل لدى قطاع من الطبقة الوسطة المصرية، وهو حل يتسق مع ثقافتنا الدينية التي تعتبر الغش ظاهرة مرفوضه بحكم الموروث الثقافي والديني، وهو الحل المعتمد لدى عدد ضخم من المعلمين عندما يواجهون مشاكل طلابهم، والحل الأخلاقي هو خليط من موروثنا الشعبي والثقافي والديني، الذي يعتبر الغش بكافة أنواعه موضع استهجان شعبي ومستنكر ثقافيا ومحرم دينيا.
وقد يكون الحل الأخلاقي لظاهرة الغش أصبح موضع تساؤل، هل ما زال المجتمع المصري يتمسك بقدرته على بسط الحل الأخلاقي للكثير من مشاكله؟ ألم يتراجع هذا الحل في الكثير من الأمور حولنا؟ ألم تطغى لغة المصالح على اللغة الأخلاقية (اللي تغلبه ألعبه)؟ ألم تتعرض قيم كثيرة للتراجع كقيمة الأمانه والعدالة والمساواة؟ ألم تطغى اللغة التجارية على اللغة العلمية (قيراط حظ ولا فدان شطارة)؟ ألم يتحول التدين لدينا إلى إطار شكلي نخفى وراءه كل عيوبنا ومشاكلنا؟ ألم تتفكك الوحدة بين النظرى والعملي بين الواقع والتطبيق (هذه نقرة وهذه نقرة)؟
تأمل هذه التساؤلات يظهر أن الحل الأخلاقي الذي يتداوله البعض لم يعد مجديا في مواجهة ظاهرة ضربت كل الثوابت الهشة التي ندعى تمسكنا بها، أو ندعى حرص الآباء على تلقينها للأبناء، وعند أول اختبارحقيقي نجد الآباء أنفسهم يقومون بمساعدة أبناءهم على الغش وتركيب سماعات تصل إلى عدة آلاف من الجنيهات كى يتمكن أبناءهم وبناتهم من الغش والحصول على حق ليس لهم، وفي سبيل ذلك نجدهم يسقون مبررات لا تستقيم مع ما ندعيه من أخلاق وتدين.
هذا المجتمع انتفض لتسريب امتحان لكنه لا ينتفض عندما يتعرض المعلمين إلى الضرب من الطلاب لقيامهم بواجبهم في منع الغش، ولم يحرك ساكنا عندما يقوم أولياء الأمور بتهديد المعلمين في حالة منع أبناءهم من الغش – وقد يصل التهديد إلى القتل، لم ينتفض الجميع عندما خصصت وزارة التربية والتعليم لجنة امتحان خصيصا لأبناء القضاة والضباط واصحاب النفوذ في مصر تحت مبررات واهية وجميعنا يعلم أن الحقيقة على عكس هذا تماما، رغم أنها ليست المرة الأولى.
لكنها المرة الأولى التي يعرى فيها رئيس لجنة امتحان الكبار منظومة التعليم والقيم عندما يعلن عدم قدرته على منع الغش، وخوفه من بطش أصحاب القوة والنفوذ في مصر، وقبل هذا وذاك كان المجتمع والدولة شاهدا على أهم عنصر في العملية التعليمية وهو المعلم يلهث من أجل أجر عادل وغض الطرف عن إهانة المعلمين اليومية في المدارس ولجؤ الاغلبية من المعلمين إلى مد يدهم لطلابهم لكى يحصلوا على مقابل الدروس الخصوصية، بل اتهمتهم بالجشع، واتهمهم الاعلام بمحاولة هدم الدولة عندما رفعوا شعارهم (أجر عادل وأنساني. مش عاوزين دروس تانى).
علينا أن نؤكد إنه في وسط انهيار كاملا في منظومة القيم الأساسية وتشوه في التعامل مع الدين وفي ظل غلبة الحلول النفعية والبرجماتية على غيرها من الحلول، وفي حالة سيادة البضاعة الرديئة داخل منظومة القيم في المجتمع يصبح طرح الحل الأخلاقي أمر عبثى، حل يحاول السيطرة وقصر وتقنين عملية الفساد والغش لشريحة أصحاب النفوذ والقوة. فالغش عملية فساد أخلاقي عندما يتعاطاها الجميع تستدعى تكاتف الجميع لمواجهتها لكن عندما يتعاطاها القلة نغض الطرف عنها ونتواطأ معها، هل هذا ما نريده لبلدنا ومستقبل أولادنا!
لا أقول بالطبع أن الأخلاق ليست ذات نفع وإلا اصبحنا غابة لكن أقول أن إعتماد الحل الأخلاقي كسبيل لمواجهة ظاهرة الغش لن تحقق المرجو منها وسط انهيار كبير لمجمل قيم قد حافظت على المجتمع المصري لقرون طويلة.
و من المهم بالطبع العمل على استعادة هذه القيم المهمة والضرورية من خلال تعليم مختلف عن الذي نتعاطاه الآن، لكن حتى يحدث هذا علينا التفكير في حلول علميه وتربوية تتيح لنا مواجهة ظاهرة على الرغم من قبحها إلا أنها عرت ما لدينا قيم هشة ومنظومة تعليم رديئة.