” الذي لا يعرف التاريخ ، محكوم عليه بتكراره” – كارل ماركس
بعد حصول المستعمرات على استقلالها السياسي عقب اسدال الستار على الحرب العالمية الثانية ، وآفول قوى الاستعمار القديم ، تطلعت المستعمرات الى بناء اقتصادها بعيدا عن علاقات التبعية الاقتصادية التي ربطتها بدول الاستعمار القديم ،التي عملت على استنزاف فائضها الاقتصادي وتحويله الى اقتصاد دول المركز الراسمالي الاستعمارية ، الا ان ذلك التحول الجوهري في سياسات الاستقلال للمستعمرات القديمة ،كذلك سياسات التنمية المستقلة التي طبقتها تلك الدول ، قد لاقت حربا ضروسا من قوى الاستعمار الجديد بقيادة الولايات المتحدة الامريكية ، وحلفاءها في الداخل المحلي ، فكانت حروب فيتنام والعدوان الصهيوني في 1967 على مصر ، ومعركة خليج الخنازير في كوبا واجتياح بنما وغزو العراق ,والانقلابات العسكرية المدعومة امريكيا في تشيلي و ايران مصدق والانقلاب الفاشل في فنزويلا ،وغيره الكثير من المعارك التي عكست مقاومة دول الجنوب للهيمنة الامريكية وسياسات الراسمالية الجديدة التي تعيد نفس سياسات الاستعمار بأقنعة زائفة كمواجهة الشيوعية وحماية حقوق الانسان ودعم الديموقراطية والحرب على الارهاب .
وبالطبع لم تكن التجربة المصرية منبتة الصلة بالمعركة الاستعمارية على الصعيد العالمي ، خاصة في ظل موقعها المحوري على خريطة العالم ، فذلك الموقع الذي لعب الدور الحاسم في احتلالها في 1882 لتأمين طرق النهب الاستعماري الانجليزي للمستعمرات الهندية ،هو نفس الموقع الذي جعل من ضمها للمنظومة الراسمالية الغربية امرا لا بديل عنه ،خاصة بعد اكتشاف البترول العربي وبعد انشاء دولة الاحتلال الصهيوني.
وفي هذا الصدد تعددت الوسائل وتنوعت الاسلحة لاعادة الاقتصاد والدولة المصرية داخل الحظيرة الغربية ، في هذا المقال سنتناول سلاح المعونات الاقتصادية الذي استخدمه الغرب ولا يزال يستخدمه في تقويض اي تجربة استقلال عن الفلك الامريكي والراسمالي المعولم .
المعونات الاقتصادية في الستينات
ارتبطت طبيعة المعونات الاقتصادية في الخمسينات والستينات بأجواء توازن القوى العالمية بين المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي وبين المعسكر الراسمالي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية ، وهو ما سمح لمصر بأن تتلقى معونات اقتصادية كبيرة من كلا المعسكرين بمجرد اثبات استقلالها عن المعسكر الاخر ، فتتلقى المعونات الغذائية من امريكا وهي في قمة تطبيقها للاجراءات الاشتراكية ، وتتلقى معونات من الاتحاد السوفيتي لبناء السد العالي ولاقامة المشروعات الصناعية والماركسيون المصريون قابعون في المعتقلات .
ولأن دوام الحال من المحال ، ولأن عجلة الاستعمار الرأسمالي تأبى الا ان تقسم العالم الى فريقين ، أصدقاء وأعداء ،وبالطبع لم يكن النظام الناصري المتطلع للقيادة العربية والافريقية والمعادي لسياسات الاستعمار والصهيونية – مؤتمر باندونج ،وحرب السويس في 56 ،ودعم الثورة الجزائرية وحركات التحرر الافريقية وحرب اليمن والموقف الرافض للصهيونية – من الاصدقاء المحتملين للمعسكر الغربي ،فكان لابد من ضربه وتقويض نفوذه المتسع يوما بعد يوم ، وهنا ظهرت المعونات الاقتصادية كأحد اسلحة الضغط على النظام الناصري ،فعمدت الولايات المتحدة الامريكية الى الغاء المساعدات الغذائية المصرية في فبراير 1967 وارجعت ذلك الاجراء لعدم رضاء الحكومة الامريكية على سياسات الحكومة المصرية ، صاحب ذلك انخفاض حاد في اجمالي المعونات المقدمة لمصر من الدول الغربية والمؤسسات الدولية ،حيث انخفض المتوسط السنوي لتلك المعونات من 200 مليون دولار خلال 1961-1966 الى ما لا يزيد عن 16 مليون دولار خلال الفترة من 1967 الى 1969.
ثم جاء العدوان الاسرائيلي المدعوم غربيا في يونيه 1967وهو ما كان بمثابة الضربة القاضية لتجربة “ناصر” التحررية بما خلفته من خسائر واعباء اقتصادية حالت دون الاستمرار في طريق التنمية الاقتصادية، حيث خسرت مصر دخل قناة السويس بالكامل عقب العدوان والذي يقدر بــ 164مليون دولار سنويا في المتوسط بتلك الفترة ، كذلك فقدت مصر حقول البترول التي احتلتها اسرائيل بالاضافة الى معامل تكرير البترول في السويس ،كذلك التدهور الكبير في عائدات السياحة المصرية والتي بلغت 100 مليون دولار سنويا قبل الحرب.
وهنا برزت المعونات الاقتصادية العربية كحل لمشكلة التمويل الخارجي الناتج عن النقص الشديد في المعونات الغربية والمؤسسات الدولية بشكل عام ، وهو ما استلزم التقهقر في مواجهة الرجعية العربية المتمثلة في دول الخليج ، بل واعادة صياغة علاقة الدولة المصرية مع حلف الرجعية العربية كما جرى في السبعينات على نحو اكثر وضوحا، حيث مثلت المعونات العربية المصدر الاساسي للمعونات الخارجية عقب هزيمة 1967 ،اذ حصلت مصر موجب اتفاق الخرطوم في 1968 من المملكة العربية السعودية والكويت وليبيا على منح ومعونات تقدر في المتوسط ب 286 مليون دولار سنويا ،وهو مبلغ بالغ الارتقاع في ذلك الوقت اذا ما عرفنا انه يساوي تقريبا المتوسط السنوي للمعونات الغربية والشرقية معا في فترة ما قبل هزيمة 1967 .
وبذلك تعمقت اهمية المعونات الخارجية للاقتصاد المصري ولا سيما المعونات العربية القادمة من الخليج العربي على نحو خاص ،وهو ما دفعنا ثمنه لاحقا في الحقبة الساداتية والمباركية وحتى سنوات ما بعد يناير المجيدة ، وهو ما سنتعرض له بالتفصيل في الجزء الثاني من هذا المقال ،قارئي الكريم .
