شكل زيارة الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز الحالية لمصر ولقائه أمس مع الرئيس عبدالفتاح السيسي فرصة ثمينة لمزيد من دعم أواصر العلاقات الثقافية الضاربة في جذور التاريخ بين “ارض الكنانة” وموريتانيا او “بلاد شنقيط” التي اشتهرت بكونها “بلد المليون شاعر” ويفخر سكانها بانحدارهم من نسل “علماء شنقيط” وهي مركز روحي وحاضرة تاريخية ومدينة تراثية في موريتانيا أضحت علما على هذه الدولة ككل.
وإذ أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي على عمق العلاقات الأخوية والتاريخية التي تجمع بين مصر وموريتانيا معربا عن تطلعه لتعزيز اواصر التعاون بين البلدين في جميع المجالات فقد كانت الثقافة حاضرة في هذا المشهد الأخوي للعلاقات الحميمة وآفاق التعاون بين البلدين الشقيقين.
فقد شهد الرئيس عبد الفتاح السيسي وضيفه الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز لمصر في ختام مباحثات القمة بينهما امس “الأحد” التوقيع على ست اتفاقيات للتعاون ومذكرات للتفاهم بين البلدين الشقيقين في مجالات الثقافة والصحة والتعدين والاسكان والثروة الحيوانية والنقل البحري.
وفيما قلد الرئيس عبد الفتاح السيسي الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز “قلادة النيل” تقديرا لدوره في توثيق روابط الصداقة بين مصر وموريتانيا فقد وقع وزير الثقافة المصري حلمي النمنم ووزير الشؤون الخارجية والتعاون الموريتاني اسلكو ولد احمد ازيد بيه البرنامج التنفيذي للتعاون بين البلدين الشقيقين في مجال الثقافة وذلك من عام 2016 وحتى عام 2019 .
وواقع الحال أن مصر يجمعها تاريخ مجيد من الروابط الحميمة مع موريتانيا التي تحمل رسميا اسم “الجمهورية الاسلامية الموريتانية” بموقعها الاستراتيجي في شمال غرب أفريقيا وإطلالتها على المحيط الأطلنطي فيما يحدها من الشمال المغرب والجزائر ومن الجنوب السنغال كما تحدها مالي من الشرق والجنوب .
ومن الأهمية بمكان الدفع في اتجاه المزيد من الانفتاح الثقافي المصري على تلك الدولة العربية الشقيقة التي تحرس البوابة الغربية للعالم العربي والممتدة على مساحة تتجاوز المليون كيلو متر مربع بثقافتها المتنوعة وشعبها الذي يقترب عدده من الأربعة ملايين نسمة و يرتبط بقوة بالإبداعات الثقافية المصرية كما يعشق تجليات الفن السابع او السينما في مصر.
وفي هذا السياق كان المستشار الدكتور تشات ضيف مدبر مركز مصر للعلاقات الثقافية والتعليمية في نواكشوط قد بحث يوم الخميس الماضي مع مدير دار السينمائيين الموريتانيين عبد الرحمن احمد سالم سبل تدعيم العلاقات الفنية بين مصر وموريتانيا.
وصرح عبد الرحمن احمد سالم بان الجانب الموريتاني يأمل في دعم مصري لإنشاء أول مدرسة سينمائية في نواكشوط مضيفا في تصريح لمراسل وكالة أنباء الشرق الأوسط في نواكشوط أن الموريتانيين يرغبون في دعم مصري يتوزع بين إيفاد أساتذة ومدربين ومعدات وبرامج ووحدات مونتاج.
وقال المسؤول السينمائي الموريتاني ان من شان هذه المدرسة تكوين أفواج من السينمائيين الموريتانيين المولعين بالفن السابع مؤكدا أمل الموريتانيين في أن يرى المشروع النور قريبا.
وأشاد بالدور الرائد الذي يلعبه المركز المصري في تسهيل وتقريب الفنانين الموريتانيين من نظرائهم في مصر ، ويولي الموريتانيون اهتماما كبيرا للسينما المصرية وترتبط دار السينمائيين الموريتانيين باتفاقية تعاون مع نقابة المهن السينمائية في مصر كما تحرص على المشاركة في مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية.
وتقول روايات التاريخ المتواترة عبر الأجيال ان قبائل “بني المعقل العربية” التي استقرت منذ القرن السادس الهجري في موريتانيا جاءت من صعيد مصر ضمن الهجرة الهلالية الشهيرة لبلدان المغرب العربي فيما امتزجت هذه الكتلة السكانية مع بقية مكونات المجتمع الموريتاني المتعدد الأعراق ما بين العرب والأمازيغ والأفارقة والذي يشكل في مجمله جسرا ثقافيا هاما ما بين شمال وجنوب القارة الأفريقية.
وبالتأكيد كانت مصر معبرا تاريخيا لقوافل الحجاج القادمين من “بلاد شنقيط” للأراضي المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة فيما تقول كتب التاريخ في هذه الدولة الشقيقة ان الشيخ العلامة محمد الشنقيطي قد اصبح عالما في الأزهر الشريف بمصر المحروسة .
وقد ورد اسم الشيخ محمد الشنقيطي في كتاب “الأيام” للدكتور طه حسين الذي يروي قصة حياة عميد الأدب العربي وقال عنه ان الطلاب الكبار في الأزهر كانوا يتحدثون بأنهم “لم يروا ضريبا للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث سندا ومتنا عن ظهر قلب وكانوا يذكرون أن له مكتبة غنية بالمخطوط والمطبوع في مصر وأوروبا وأنه لا يقنع بهذه المكتبة وإنما ينفق وقته ناسخا وقارئا”.
واذا كانت العربية هي اللغة الرسمية لموريتانيا حسب الدستور فإن اللهجة العربية السائدة في هذه الدولة التي نالت استقلالها عن فرنسا عام 1960 هي “اللهجة الحسانية” وهي من أقرب اللهجات للعربية الفصحى فيما يحرص مطار نواكشوط الدولي على استقبال ضيوفه بهوية عربية تتجلى في القاعة الرئيسية وهي على شكل خيمة عربية ويعتز الشعب الموريتاني بلغة الضاد.
ونواكشوط التي اقتطعت من صحراء شاسعة يحمل الشارع الرئيسي فيها والذي يقسمها الى نصفين اسم “جمال عبد الناصر” فيما تحمل العديد من شوارع العاصمة الموريتانية أرقاما بدلا من الأسماء ولعل الأدب الموريتاني يعبر بصورة دالة على المواجهة بين الإنسان الموريتاني وتحديات الطبيعة والمناخ.
وعلى سبيل المثال فان رواية “مدن الرياح” للكاتب الموريتاني موسى ولد ابنو تتضمن مثل هذه الإشارات الدالة حول بلاد تمتد على مساحات شاسعة من الرمال وتواجه دوامات العواصف ونوبات الجفاف وموجات التصحر بينما لا تكف قوافل الملح عن الرحيل عبر الصحراء من الجنوب الى الشمال.
وفي مجتمع لا يكف رجاله عن الترحال سعيا للرزق كان من الطبيعي أن تبقى المرأة “وتد الأرض وحافظة الهوية وراعية الأطفال والأجيال الصاعدة ” فيما تتفق القبائل في هذا البلد الصحراوي على المثل الحساني القائل :”لا يكرم المرأة إلا كريم ولا يهينها إلا لئيم”.
ومن اشهر الفنانين في موريتانيا وحتى على مستوى منطقة المغرب العربي المطربة الموريتانية معلومة بنت الميداح التي توصف “بفنانة الشعب” وهي في مقابلاتها الصحفية تستعيد دوما تأثير الفن المصري ورموزه مثل ام كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ في أبناء موريتانيا فيما تعد هذه المطربة من مؤسسي الأغنية العصرية في بلاد شنقيط.
وإذا كان حضور المرأة الموريتانية قويا في الحياة العامة والأنشطة الاقتصادية بما في ذلك الأسواق فالصحراء في بلاد شنقيط ساحة لصراعات البشر والطبيعة أما البحر أو المحيط فيجذب الصيادين والباحثين عن مهرب من شح الأمطار ناهيك عن المستعمرين في الماضي الذين سيطروا على الماء واليابسة التي تحوي أنواعا من أفضل خامات الحديد.
وتمتلك موريتانيا كذلك أفضل الشواطيء للصيد في العالم بعد اليابان ومن هنا يمثل البحر مصدر ثروتها الحقيقي كونها تطل على الجزء الدافيء من المحيط ويحوي في جوفه القاري أسماكا عالية الجودة غير أنها تعاني من عمليات الصيد الجائر من جانب أساطيل أوروبية تماما كما تعاني من إشكاليات تركها الاستعمار الفرنسي قبل رحيله مثل إشكالية الازدواجية اللغوية التي سعى لفرضها على بلاد شنقيط .
لكن أرض الكنانة ستبقى دوما وفية لتاريخ مجيد يجمعها مع بلاد شنقيط فيما نثق معا بسعينا المشترك لغد أفضل تتحقق فيه كل الأحلام النبيلة للشعبين الشقيقين وتنتصر فيه الإرادة العربية وثقافة الاصطفاف العربي على دوامات العواصف ورياح الفتن.