حرب الاستنزاف.. الطريق إلي 6 أكتوبر
بناء القوة فى قلب معركة .. وتبديدها على طاولة مفاوضات
العسكرية المصرية انتعشت على خط النار بعيدا عن أبهة السلطة وصراعات السياسة
العقيدة القتالية للجيش حماية البوابة الشرقية والعسكر درع الوطن على الحدود.
مدحت الزاهد
الدرس الاهم الذى يمكن أن نستحضره الان من حرب اكتوبر هو أن أفضل طريقة لخلق القوة هو بنائها عبر اشتباك، وأن أقصر خط لعبور الهزيمة هو المقاومة، وأن الانتقال من حالة الضعف الى حالة القوة يتم فى الاوضاع الصعبة باستراتيجية الصراع طويل الامد .. وأن المعارك الصغيرة هى أفضل وسيلة للحرب الكبرى، فالجيوش لا تتعلم ويتم تجهيزها فى قاعات المحاضرات، بل فى ميادين الرماية ومواقع الاشتباك ومسرح العمليات ..
وهذا ما صنعته.
حرب الاستنزاف
فمشهد 6 اكتوبر صنعته حرب الاستنزاف.. والحرب ليست مجرد مشروع نظرى، فلكى تتعلم العوم لا بد أن تلقى بنفسك فى البحر..
وهذا ما صنعته حرب الاستنزاف، والتى اعتدنا أن نطلق عيها “بروفة اكتوبر” وكانت كذلك بحق، لكنها كانت أكثر من البروفة .. كانت حربا فى حد ذاتها يطلق عليها فى الادبيات الاسرائيلية “الحرب الرابعة” التى فتحت طريق العبور
أمر قتال
وبالتعبير العسكرى بدأت حرب الاستنزاف منتصف عام 68 بمعارك المدفعية على طول الجبهة بالتناغم مع تطور كل أفرع القوات المسلحة .. وبالمنظور المعنوى والاستراتيجى بدأت حرب الاستنزاف بعد اسابيع محدودة من الهزيمة بعد أن تلقى الجيش أمر قتال من الشعب فى 9 و10 يونيو بخروج الجماهير المصرية والعربية الى الشوارع ترفض الهزيمة، وتتمسك بعبد الناصر وخط المقاومة “بالروح والدم هانكمل المشوار” .. “بالجيش والشعب هانكمل المشوار” وتجاوب معها جمال “ما اؤخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة” وهو الشعار الذى التزم به وقاد معركته حتى النفس الاخير.
من الصد الى الردع
وسريعا ما انتقلنا من معارك الصد الى الدفاع النشط والردع كحلقات فى حرب الثلاث سنوات، تناسب تطور القوى الذى تحقق ببيان عملى فى الميدان.
وفى قلب الاشتباكات أخذت تنمو عناصر القوة بداية من معركة رأس العش وتدمير ايلات وعمليات التسلل عبر القناة وخوض اشتباكات صغيرة .. فى عملية تصاعدت بحريا حتى وصلت الى هجمات على موانئ فى اسرائيل وتدمير الحفار فى اعماق افريقيا.. وجويا بتصاعد شبكة الدفاع وحائط الصواريخ حتى غطت العمق المصرى والخوط الامامية للجبهة باعمال هندسية وصلت الي30 مليون متر مكعب من أعمال الحفر والردم, و3 ملايين من الخرسانة ومئات الكيلو مترات من الطرق والمدقات, بمشاركة معظم شركات المقاولات مع ضباط وجنود القوات المسلحة .
وفي صباح30 يونيو عام 70 تم استكمال مواقع الصواريخ وتمركز الكتائب…. وفشلت اسرائيل فى تدمير شبكة الصواريخ رغم غارات متصلة لمدة38 يوما وحتي1970/8/7 م وكانت خسائر الجانب الإسرائيلي تدمير17 طائرة وإصابة34 فى أسبوع واحد.
وبريا بفتح النار على طول خط الجبهة وعبور مفارز من القوات الى الضفة الاخرى للقناة والاستيلاء لساعات على بعض النقاط ورفع العلم المصرى فوقها والعودة من خطوط العدو بقتلى واسرى اسرائيليين.
وكل هذه المشاهد هى التى عبدت الطريق الى 6 اكتوبر.. يوم العبور
فملحمة العبور أضحت ممكنة لان عمليات عبور صغيرة كانت قد تمت على مدى سنوات وحائط الصواريخ الذى حمى عبور القوات لم يظهر فجأة ، بل تم تشييده دشمة دشمة وموقعا موقعا ثم تجمعيه فى شبكة تبادلية تحمى بعضها فى قلب معركة.. استشهد فيها مهندسون وعمال وعساكر وضباط حتى أكتمل أكبر حائط للدفاع الصاروخى ..
وفى الحقيقة فقد تم فى غمار حرب الاستنزاف عملية “تطعيم” لحرب العبور أعادت للجنود الثقة فى قدراتهم القتالية وفى القيادة ..
شهادة محمد فوزى
وليس هناك من يتحدث عن حرب الاستنزاف أفضل من الفريق أول محمد فوزي، وزير الحربية الأسبق والقائد العام للقوات المسلحة المصرية، والذي أعاد بناء الجيش بعد هزيمة يونيو، و كتب كتاباً رائعاً(حرب الثلاث سنوات67 ـ70) لخص فيه مغزاها الإستراتيجي باعتبارها الأكاديمية العليا لاعداد الجيش للحرب فى غمار المعارك.
ويلخص الفريق فوزى حكمة حرب الاستنزاف بقوله: من المعروف أن استراتيجية حرب الاستنزاف من الاستراتيجيات المعترف بها في العلم العسكري، ففي بعض الظروف السياسية والاستراتيجية، عندما لا تتوافر القدرة على الحركة السريعة أو يتأخر توافرها لتنفيذ العمل العسكري المباشر لعوامل سياسية أو عسكرية، تصبح استراتيجية “الصراع طويل الأمد” هي استراتيجية ملائمة في ظل هذه الظروف.
ويستطرد الفريق فوزى:
لقد كانت حرب الاستنزاف هي البوتقة التي صهرت المقاتل المصري وطورت خبراته وعالجت جروحه النفسية والمعنوية التي تركتها فيه هزيمة يونيو.
وكان من الضروري أن تخوض قواتنا حرب الاستنزاف وما سبقها من قتال في مرحلتي الدفاع ثم الدفاع النشط، للتدريب عملياً على القتال الفعلي ضد إسرائيل.
وارتفعت القدرة القتالية لقواتنا المسلحة خلال الصراع المسلح في الفترة من انتهاء حرب يونيو حتى انتهاء حرب الاستنزاف في أغسطس 1970، بعد أن تعددت وتنوعت أساليب القتال – دفاعاً وهجوماً – بكل أنواع الأسلحة في كل أفرع القوات المسلحة.
وعموماً فإنه عندما انتهت حرب الاستنزاف، كانت قواتنا المسلحة قد حققت فوائد كثيرة ودروساً عسكرية مستفادة ثمينة، الأمر الذي جعل القوات المصرية قادرة على القيام بعملية هجومية شاملة مع اقتحام مانع مائي فريد في مواصفاته، وهي من أعقد العمليات العسكرية، ولم يكن ممكناً القيام بهذا العمل العظيم، لو كانت قواتنا وقفت موقفاً سلبياً على أثر حرب يونيو.
وفى حوار مع الاهرام لخص الفريق زاهر عبدالرحمن، قائد قوات الدفاع الجوي الأسبق الدور الذى لعبته حرب الاستنزاف فى تعزيز قدرات الدفاع الجوى وبناء الحائط الصاروخى بذكر عوامل منها:
كشكول الجمسى
وفى فترة حرب الاستنزاف عمل الجنود كخلية نحل لاعداد اليوم المشهود وأخترع مهندس مصرى شارك فى بناء السد العالى فكرة خراطيم المياه لتفتيت الحاجز الترابى الاسرائيلى وتدربت القوات فى فروع النيل على العبور وحددت بدقة مناطق الضعف التى يمكن منها اختراق الجيش المصرى (مناطق المفاصل بين الجيشين الثانى والثالث) وتعاملت معها بنجاح.
ويعد ما يسمى “كشكول الجمسى” الذى تم اعداده فى غرفة العمليات المصرية، قبل الحرب، وصدقت عليه القيادة المشتركة، انجازاً رفيعا باى مقياس، حيث اختارت القيادة موعد القتال فى يوم اجتمعت فيه صفات فريدة، يلخصها المشير الجمسى فى مذكراته بالقول:
وضعنا فى هيئة العمليات دراسة على ضوء الموقف العسكرى للعدو وقواتنا ، وفكرة العملية الهجومية المخططة ، والمواصفات الفنية لقناة السويس من حيث المد والجزر …. درسنا كل شهور السنة لأختيار افضل الشهور فى السنة لاقتحام القناة على ضوء حالة المد والجزر وسرعة التيار واتجاهه واشتملت الدراسة أيضا جميع العطلات الرسمية فى إسرائيل بخلاف يوم السبت وهو يوم أجازتهم الأسبوعية، حيث تكون القوات المعادية أقل استعداد للحرب. وجدنا أن لديهم ثمانية أعياد منها ثلاث أعياد فى شهر أكتوبر وهم يوم كيبور ، عيد المظلات ، عيد التوارة . وكان يهمنا فى هذا الموضوع معرفة تأثير كل عطلة على اجراءات التعبئة فى إسرائيل ……، ولإسرائيل وسائل مختلفة لاستدعاء الاحتياطى بوسائل غير علنية ووسائل علنية تكون بإذاعة كلمات أو جمل رمزية عن طريق الإذاعة والتليفزيون…. ووجدنا أن يوم كيبور هو اليوم الوحيد خلال العام الذى تتوقف فيه الإذاعة والتليفزيون عن البث كجزء من تقاليد هذا العيد اى ان استدعاء قوات الاحتياط بالطريقة العلنية السريعة غير مستخدمة ، وبالتالى يستخدمون وسائل أخرى تتطلب وقتا أطول لتنفيذ تعبئة الاحتياطى…. وكان يوم السبت ـ عيد الغفران ـ 6 أكتوبر 1973 وهو ايضا العاشر من رمضان أحد الايام المناسبة وهو الذى وقع عليه الاختيار)
تبديد القوة
واذا كانت حرب الاستنزاف نموذجا فى تجهيز القوة فى أتون النار ، فإن الادارة السياسية والاستراتيجية التفاوضية للسادات كانت نموذجا فى تبديد عناصر القوة التى تحركت .. وهو ما لخصه محمد حسنين هيكل فى عبارته البليغة “السياسة خذلت السلاح”
من مظاهر هذا التبديد تضيع فرصة تطوير الهجوم عندما كان الطريق مفتوحا الى الممرات والقوات الاسرائيلية تركز مجهودها الحربى على جبهة الجولان باعتبار أن أى اختراق فيها يفتح الطريق لضرب العمق الاسرائيلى بالمدفعية من جبل الشيخ الذى دارت عليه معركة رهيبة شبرا بشبر، بينما يوفر العمق الاستراتيجى الكبير لسيناء فترة انذار كافية تسمح بإعطاء اسرائيل الاولوية للحسم فى الجبهة الشمالية اكتفاء بمعارك صد فى سيناء .. وقد أضعف تحطيم خط بارليف الحلقة الاهم فى حائط الصد.
ويمثل هذا الخيار (تأجيل الهجوم) نموذجا لتبديد القوة، ولكن ذلك لم يكن النموذج الوحيد.
فقد حدث اهدار تال للقوة بالامر بتطوير الهجوم فى توقيت غير ملائم للقوات التى عبرت بعد أن خفضت القوات الاسرائيلية مخاطر جبهة الجولان وأوقفت التقدم السورى ونقلت مجهودها الحربى الرئيسى الى جبهة سيناء.
والحاصل أن الوقفة التعبوية استطالت على حساب تطوير الهجوم، ثم حدث تطوير الهجوم بعد أن بدأ الهجوم الاسرائيلى المضاد.
ولان تطوير الهجوم تم متأخراً، وفى وقت كان فى وسع القيادة الاسرائيلية فيه ان تجعل الجبهة الجنوبية مركز الثقل فى نشاطها العسكرى، فقد تم احباط الهجوم المصرى، والاستعداد لشن الهجوم المضاد واختراق الجيشين الثانى والثالث فى منطقة الدفرسوار، فيما عرف بالثغرة رغم البطولات النادرة للقوات فى كل ميادين القتال، وفى مختلف الاوضاع (حرب الاستنزاف، العبور، الوقفة التعبوية، تطوير الهجوم، الثغرة، معركة السويس)
تطوير الهجوم
يلخص المشير محمد عبد الغنى الجمسى، رئيس غرفة العمليات فى حرب اكتوبر، وقائع هذه الفترة بالقول: عقب نجاح عملية العبور كان الفريق أحمد إسماعيل يتجه نحو ضرورة القيام بوقفة تعبوية، وكنت أميل أنا إلى مواصلة الهجوم قبل أن يفيق العدو ويحرك احتياطاته.. لكنه طالبني بالتمهل وقال نريد أن نكبد العدو أكبر قدر من الخسائر الممكنة من حالة الدفاع وليس من حالة الحركة.. بعدها بيومين أعدت عليه ضرورة تطوير الهجوم طبقاً للخطة لكنه أبدى تخوفاً من أن يهاجم سلاح العدو الجوي قواتنا البرية وكنت أرى أنه لا مدعاة للتخوف خاصة أن كل ما لدينا من صواريخ متحركة مضادة للطائرات يمكن دفعها إلى الأمام وذكرت له أن سلاح الطيران “عمل البدع” يوم 6 أكتوبر في الإسرائيليين ولكنه لم يقتنع.
الثغرة
وعودة الى وقائع اهدار القوى فقد صدر قرار سياسي بتطوير الهجوم يوم 13 أكتوبر، إلا أن قائدا الجيشين الثاني والثالث طلبا تأجيله إلى يوم 14 (للانتقال من وضع الوقفة الى وضع الهجوم) وتم التطوير بالفعل يوم 14 أكتوبر بعد انتظار لم يكن له مبرر..
ويروى حافظ إسماعيل، مستشار الامن القومى خلاصة هذا الوضع وانعكاساته المعنوية والمادية على القوى : كان الاختراق الذي حدث في الجبهة العسكرية منذ 16 أكتوبر قد تطور الآن بحيث أصبحنا نواجه هجوماً إسرائيلياً مضاداً واسع النطاق.. يستهدف عزل قواتنا في شرق القناة.
وفى هذه الايام العصيبة بدأ السادات وحيداً وكان هو الذي اختار أن يواجه الموقف وحده. لقد أتخذ وحده من قبل قرارات مصيرية متعددة.. وربما لم يجد ضرورة الآن، وحدة الأزمة تتصاعد، أن يدعو رفاقه ومعاونيه.. واختار أن يجتاز الأزمة وحده.
ويضيف: كانت رسائله إلى واشنطن وموسكو يومى23 و25 أكتوبر تعكس قدر الصعاب التي نمر بها. فلقد كان مصير مدينة بأسرها (السويس) وجيش ميداني.. بل ومصير أمة.. معلقاً بخيط رفيع.
وفى موضع اخر ويلخص مستشار الامن القومى الموقف بالاستعانة بحديث السادات امام مجلس الامن القومى” “إننا دخلنا الحرب لإقناع إسرائيل أن الحرب لا تحل المشكلات”. ثم أضاف “إننا قد كسبنا الاحترام بعد احتقار العالم لنا”.. ثم أننا “لا نستطيع أن نحقق تحرير سيناء عسكرياً”.
الثغرة الحقيقية
ويمثل هذا التراوح بين تأجيل تطوير الهجوم فى ظروف ملائمة للقوات، ثم تطويره فى ظروف غير مواتية ـ بعد أن بدأ الهجوم الاسرائيلى المضاد ـ المظهر الابرز لتبديد القوى فى ميدان المعركة والثغرة الاهم فى مسار الحرب، وهى بالفعل التى فتحت الطريق لثغرة الدفرسوار!
و لايوجد سر لهذه الثغرة الا فى فى الهدف السياسى للمعركة الذى طرحه السادات فى اجتماع لقادة القوات، قبل الحرب، كشف اسراره الكاتب الصحفى موسى صبرى، فى كتابه المهم “وثائق حرب اكتوبر” ففى هذا الاجتماع ألح السادات كثيرا على تعبير “كسر وقف أطلاق النار وتحريك الموقف السياسى والجهود الدبلوماسية بمخاطرة عسكرية محسوبة
اسير الوهم
والواقع أن السادات ظل اسيرا للرهان الدبلوماسى بفعل عسكرى محدود وبنظرية “الحرب المحدودة” وقد ترجمها الى مجرد العبور للضفة الاخرى .. وبامكانية “تحييد امريكا” وظل اسيرا لما جاء فى التوجيه الاستراتيجى للحرب من “تحرير سيناء على مراحل تبعا لقدرات القوات” دون التفات الى تعاظم هذه القدرات بفعل العبور، بأقل الخسائر، وبإنجاز السلاح على أرض المعركة.. وبالطريق الذى سار مفتوحا الى الممرات، وبالمزايا التى يحققها للجبهة المصرية خوض اسرائيل الحرب على جبهتين .. والاولوية التى تمنحها للقوات الاقرب والتى يمكن أن تطول بمدافعها من جبل الشيخ مدن العمق الاسرائيلى.
و بلا شك فإن القوة المصرية كانت قادرة على تحقيق انجاز اكبر بكثير يستجيب لطموح الشعب وقدرات العسكرية المصرية التى تشكلت على خط النار بعيدا عن أبهة السلطة وصراعات السياسة وتحويل الكاكى الى وسيلة للهيمنة والاستعلاء.. وهى أهم ملامح قصة صعود وهبوط المشير عامر ومراكز القوى التى تشكلت حوله وخلطت بين العسكرية والسياسة .. وبين واجبات الجندية واطماع السلطة.
ومهما يكن فإن الجيش الذى تشكل بالفعل على خط النار كان قادرا على تطوير ملحمة العبور.
ولكن لماذا أنتقلت القيادة العليا من تثبيت الهجوم الى تطويره؟
التفسير الاقرب الى المنطق أن السادات اكتشف خديعة دعوات التهدئة الامريكية (حتى تفرغ اسرائيل من جبهة سوريا) وخطابات الغزل الكسينجرية التى أفادت أنهم فهموا الرسالة و لا داع لتعقيدات اضافية، ورد “التحية” باحسن منها بالتعهد بعدم توسيع الاشتباك وتعميق المواجهة، ثم رأى توجيه المجهود الحربى الاسرائيلى فى اتجاه سيناء بعد انقلاب ميزان المعركة فى الجولان فالقى بكل أوراقه فى الوقت الضائع، مما أضطره لتقديم تنازلات اضافية بددت مزيدا من القوى فى مفاوضات فك الاشتباك، بعد الاختراق الاسرائيلى للجبهة المصرية، ثم أضاع باريحيته على طاولة المفاوضات مكاسب أخرى حققتها القوات.
وفى هذا التفسير انصافا للسادات بأكثر كثير من محاولة تفسير اللغز على طريقة الكاتب الكبير يوسف ادريس الذى أعتبر الحرب “تمثيلية أمريكية” فيما أعتبرت القيادة السورية أن السادات خذلها فى الحرب بتأجيل تطوير الهجوم وفى السلام بالحل المنفرد.
وفى أحسن الاحوال فإن السادات لم يتحلى بالمرونة الكافية لتعديل مخططه السياسى تبعا لسير العمليات العسكرية والانجاز الرائع لملحمة العبور، وهذا التعديل كان ممكنا وهو أمر تقرره النظرية العسكرية، وتاريخ الحروب، غير أن هذا التعديل لا يقتصر على طرح أهداف أعلى للعمليات بل لابد أن يشمل مجمل العلاقات السياسية للطرف الذي يقبل به، وهو أمر تقرره القيادة السياسية، أما العسكر فان بوسعهم فقط ان يطرحوا الإمكانية ، كما تجلت لهم فى ميادين القتال، وقد طرحوها بالفعل فى انتظار أوامر القائد السياسي الأعلى.
وعلى طاولة المفاوضات
وما حدث أثناء سير العمليات من تبديد للقوى تكرر على طاولة المفاوضات التى لم تعكس فقط نتائج القتال، بل ايضا جموح السادات للاندفاع للضفة الاخرى بوهم أنه زعيم استراتيجى كبير يصنع السلام والرخاء و لا يهم مع الاندفاع فى اتجاه هذا الهدف التفاصيل!
يكفى هنا أن نعود الى بعض اشارات الوثائق السرية للبيت الابيض عن سنوات حكم الرئيس السابق ريتشارد نيكسون (من سنة 1968 إلى سنة1974) ومن بينها الوثائق السرية لهنري كيسنجر,الذي كان مستشارا للأمن القومي,ثم وزيرا للخارجية.
ومن بين هذه الوثائق محاضر إجتماعات كيسنجر مع الحكام العرب والإسرائيليين خلال الجولات المكوكية التي قام بها 1974. ويمكن ايجاز بعض ما يهمنا هنا فى الوقائع التالية:
يصف كيسنجر السادات فى حديث له مع جولدا مائير بقوله: حتى الآن قابلت كل الحكام العرب،وأعتقد أن السادات أسهلهم في التفاوض زملائه الحكام العرب يقولون أنه يريد إنسحاب القوات الإسرائيلية من قناة السويس،ثم إنسحابا من صحراء سيناء،ثم تحويل سيناء إلى منطقة منزوعة السلاح وهكذا يكون إخراج مصر من مسلسل الحرب مع إسرائيل،ويكون وجد عذرا لعدم دخول مصر في حرب أخرى معها.
وأنا قلت للسادات: “”لا تغضب الإسرائيليين”” والسادات قال:”” هذا صحيح”” وقال انه لن يتحدث عن اى موضوع آخر (يقصد الموضوع الفلسطيني) خلال سنة1974! وأنا إشترطت عليه قبل أن آتي إلى هنا، أن لا يثير أي موضوع غير موضوع فك إشتباك القوات الإسرائيلية والمصرية وهو وافق
وفى موضع اخر يقول:السادات تحدث لعشر دقائق فقط عن فلسطين،حتى يقدر أن يقول للآخرين أنه ناقش الموضوع ..السادات لا يتحمس للموضوع الفلسطيني،مثل بقية الحكام العرب لكن الرئيس السابق جمال عبدالناصر كان مختلفا عن السادات
وعندما عرض كيسنجر المطالب الاسرائيلية بشان انسحاب معظم الأسلحة والقوات المصرية التى عبرت علق
الجمسي: نحن لن ننسحب من الأراضي التي حررناها، وقال وزير الخارجية فهمي: الإسرائيليون يريدون المعاملة بالمثل لكن كيف المعاملة بالمثل هذا شيئ غير منطقي نحن ندافع عن وطننا،ودباباتهم لا تدافع،دباباتهم في أرض مصرية، لكن السادات وافق فى النهاية على الخطوط الرئيسية للمشروع الاسرائيلى. حيث انتهت مرحلة فصل القوات.
ويكفى ايضا ان نعود الى مذكرات وزير خارجيته محمد ابراهيم كامل (السلام الضائع فى كامب ديفيد) والى وقائع كل ما يحرى هذه الايام.