توبيخ الشعب!!
يحدث في مصر ما لا يجب أن يحدث!
وأعصابنا ليست حجرا، أو معدنا، حتى يصبح المرض والسجن والموت، كلمات عادية في مرتبة صباح الخير!
ونحن لم نولد لنقدم أجسامنا قربانا لأحد، ولم نولد لنموت في غير الحروب الواجب خوضها، فهل بهذه السرعة ندخل زمن الموت، بعد أن فشل المشروع الديموقراطي الذي لم يتخط عتبة الكلام وسين المستقبل الناتئة كأسنان منشار حديدي غليظ.
تناشدنا الحكومات في أوقات الأزمات أن نقف صفا واحدا في مواجهتها، لكنها حين تسرع إلى تبرئة نفسها، تلقي بالمسئولية على الطبيعة مرة، وعلى عدو خارجي مرة، ومرات على الشعب، ويلقون بالعبء الرئيسي للأزمة على العمال والفلاحين والفقراء عموما. في كثير من البلدان قامت الحكومة بتنفيذ إجراءات قاسية ضد العمال.
إستمر العمل في بعض المناطق في الصين وإيطاليا والدانمارك، كما لو كان خاضعا للأحكام العرفية، واضطر العمال في مصانع الصلب الرئيسية في الصين للبقاء فى مصانعهم لمدة شهر تقريبا، دون الحصول على إجازات أو العودة إلى ديارهم.
وفي كثير من الدول، يضطر الأطباء والممرضات للعمل لساعات طويلة حتى يسقطوا منهارين من التعب، في الوقت الذي طلب فيه من العاملين، خاصة في الصناعة، مواصلة العمل، وفي مصر تواصل الأطقم الطبية العمل دون حماية كافية، ويواصل العاملون حتى في صناعات غير ضرورية العمل رغم عدم توافر وسائل الوقاية.
وهنا يجوز لنا أن نسأل: إذا كانت مواجهة انتشار الوباء توجب النصيحة بالبقاء في المنزل، فلماذا يطلبون من العمال، حتى في قطاعات الاقتصاد غير الرئيسية، أن يذهبوا إلى العمل؟ الإجابة واضحة: من أجل استمرار أرباح الرأسماليين.
تروج النخب الحاكمة لأوهام وضلالات متعددة، منها، أن الوباء كارثة طبيعية، وأن الفيروس لا يفرق بين غني وفقير، وأن كل الناس، الوزير والخفير، عرضة للإصابة بالمرض،
لكن كل هذا غير صحيح، الفيروسات والبكتيريا والطفيليات وكل مسببات الأمراض ليست جديدة، بل تعيش معنا منذ وجد الإنسان على الأرض وربما قبله، ولن تختفي، وليست الأوبئة والجوائح حدثا جديدا على تاريخ المجتمعات البشرية، ويحفل تاريخنا بمثل هذه الجوائح، مع ذلك فشلت الحكومات جميعا في توقع الوباء والإستعداد لمواجهته.
الوهم الثاني هو أن الفيروس يصيب الجميع، وهو أمر غير صحيح، فليس كل الناس سواء في احتمال الإصابة بالمرض، لأنهم ليسوا سواء، لا في القدرة على حماية أنفسهم بالنظافة المستمرة، ولا في القدرة على تنفيذ العزل الذاتي والتباعد الإجتماعي، ولا في توافر سبل الوقاية، ولا في القدرة والوصول إلى طرق العلاج المتاحة في الوقت المناسب.
لا نتحدث هنا عن الموت، بل عن فرص العلاج، ومن ثم احتمال النجاة، نتحدث عن الأكثر احتمالا بالمعنى الإحصائي.
تتمتع النخب الحاكمة بفرص أكبر في عدم الإصابة، بسبب قدرتها على تنفيذ العزلة والتباعد والإلتزام بأدوات الحماية والنظافة المتكررة، وأيضا بسبب قدرتها على إجراء الإختبارات وتلقي العلاج المتاح في الوقت المناسب، حتى ولو على نفقتهم الخاصة. أما الفقراء والمشردون وسكان مدن الصفيح والمخيمات والأحياء المكتظة، فلا يملكون أدوات النظافة الكافية، ولا أدوات الحماية الضرورية، ولا ترف التباعد الإجتماعي، كما أن فرصهم في إجراء الإختبارات، وتلقي العلاج في الوقت المناسب، قليلة.
خرج علينا قبل أيام الدكتور حسام حسني رئيس اللجنة العلمية لمكافحة كورونا بوزارة الصحة ليوبخ الشعب المصري ويتهمه بعدم الإلتزام ويحمله من الآن مسئولية ما قد يحدث من تداعيات للوباء. وقال أننا يمكن أن نحقق أرقاما أفضل في حال “إلتزام” المواطنين بالإجراءات الحكومية، وأكد بقوة واكثر من مرة على أن الدولة والحكومة تقومان بواجبهما على أكمل وجه في مواجهة الأزمة.
ولم ينس الدكتور أن يذكرنا بأن المرض معد، وأن جميع المستشفيات العامة والخاصة ملزمة باستقبال المرضى المشتبه في إصابتهم، لكن العلاج لن يكون متاحا سوى في مستشفيات العزل، وقال أن مصر لديها 28 مستشفى للعزل، لا تعمل منها حاليا سوى 8، وسيتم افتتاح 20 مستشفى قريبا.
لكنه تجاهل أن الشعب ليس هو من قرر خفض الإنفاق على الرعاية الصحية في السنوات العشرة الأخيرة، الأمر الذي يحد الآن من قدرة الدولة على مواجهة الوباء. ومع ذلك يبرىء الدكتور الدولة والحكومة والوزارة، ويعفيها مقدما من مسئولية أي تداعيات سلبية قد تحدث، ويهرب إلى الأمام بتحميل المسئولية للشعب.
خفضت معظم الحكومات من مخصصات الرعاية الصحية في السنوات العشرة الأخيرة، في إيطاليا مثلا، قامت الحكومة بإلغاء 46500 وظيفة في مجال الرعاية الصحية، وخفضت عدد أسرة المستشفيات 70 ألف سرير، في عام 1975 كان لديها 10.6 سرير لكل ألف، إنخفض العدد في 2020 إلى 2.6 سرير لكل ألف. وفي بريطانيا إنخفض العدد من 10.7 سرير لكل ألف عام 1960 إلى 2.8 سرير في عام 2013.
نفس الظروف تقريبا توجد في باقي الدول الغربية وغيرها من دول العالم، ففي مصر كان لدينا 1.6 سرير مستشفى لكل ألف في عام 2014، وانخفضت النسبة في 2019 إلى 0.96 سرير لكل ألف، كانت الحكومة هي التي خفضت الإنفاق على الصحة، وعدد أسرة المستشفيات، ودفع تدني الرواتب كثير من الأطباء للهجرة أو الإستقالة، فلماذا تلومون الشعب؟!
أدى ضعف الإنفاق على الصحة إلى محدودية المرافق والأدوات الصحية الأمر الذي يضع الأطباء في اختبار صعب، ليس هناك ما يكفي من الأسرة للعلاج، ويتوجب عليهم أن يختاروا من يمكنهم تلقي العلاج، ومن سيتركون للموت، ما يعنى أن الكثيرين من كبار السن سيموتون.
أصيب حوالي 90 من الأطقم الطبية في مصر، وماتت ممرضة إيرانية قبل أن تصلها نتائج الإختبار. ومع زيادة أعداد الحالات المصابة قد تتعرض أنظمة الرعاية الصحية- الضعيفة أصلا- لضغوط شديدة قد تدفعها للإنهيار، عندها سيترك مئات الآلاف من المرضى لمصارعة الموت وإنقاذ أنفسهم، أما الأغنياء، الذين يحصلون على رعاية صحية خاصة، فسيفلتون من هذه المجزرة البربرية، فلماذا تلومون الشعب؟!
فشلت الحكومة أكثر من مرة، فلم يبذلوا أي جهد في توقع الكارثة، وفشلوا في الإستعداد لها، وفشلوا في محاولة تجنبها، وفشلوا في توفير أدوات الحماية وإجراء الإختبارات لمن طلب منهم مواصلة العمل، وحتى للأطقم الطبية المعالجة، وفشلوا في تقديم النصائح والإرشادات الضرورية لكل من يحتاجون إليها في مواقعهم البعيدة في الريف والمدن الصغرى، ومن ثم فشلوا في تقليل خسائر الكارثة، ومع كل هذا الفشل لا يتورعون عن توجيه اللوم للشعب وتقريعه وتوبيخه!
فشلت لجنة الدكتور حسام فشلا واضحا فيما نجحت فيه لجنة أخرى في سنغافورة مثلا، حيث وزعوا قفازات الأيدي والأقنعة الواقية مجانا لكل الشعب هناك، ولم يوبخوا الشعب هناك كما يفعل المسئولون في مصر.
بدلا من أن يعترف الدكتور حسام بقصور في عمل اللجنة والوزارة، وأنهم فشلوا في توفير أدوات الوقاية المناسبة حتى للأطقم الطبية في المستشفيات، وفشلوا في توعية وفي توصيل سبل الوقاية والنصائح والأدوات الضرورية لكل المواقع التي يوجد فيها من يحتاج إليها، ويبدو الفشل واضحا جدا في الريف والمدن الصغرى والشوارع الجانبية والأحياء الشعبية، ومع ذلك خرج الدكتور ليؤكد أن الحكومة تقوم بواجبها في مواجهة الوباء على أكمل وجه.
على الرغم من تقييد حقوق العمال في الإضراب بسبب تدابير الطوارئ، بدأ العمال في التحرك لمواجهة الوباء وتداعياته، فأجبر العمال في شيلي بعض القطاعات على الإغلاق، وشهدت إيطاليا موجة من الإضرابات، وخرجت فئات من الشعب للإحتجاج على عدم الإلتزام بتدابير السلامة وتوفير أدوات الحماية الطبية، وطالبوا بإغلاق المصانع التي تنتج سلعا غير ضرورية مع ضمان رواتب وأجور العمال حتى يتم تنفيذ الإشتراطات والإجراءات الصحية المناسبة.
وقدم الشعب المصري في الريف والمدن مبادرات أهلية وحزبية رائعة في التضامن لمواجهة الوباء، شكل الشباب فرقا من المتطوعين لتطهير المواقع والمصالح الحكومية، وفرقا لتوزيع الصابون والمنظفات ومواد التوعية والقفازات والأقنعة الواقية، وتطوع عشرات الشباب في بيع وتوزيع المواد الغذائية بأسعار الجملة، وشكلوا فرقا لتقديم المساعدة للمسنين والمقعدين.
حدث ذلك في قرى ومدن الدقهلية وقنا وبني سويف وسوهاج والمنوفية والشرقية والقاهرة والجيزة وغيرها من المحافظات. هذا هو الشعب، الشعب الذي يتحدثون باسمه، دون أن يبذلوا جهدا في الإقتراب منه والإستماع إليه.
إذن، فليكن واضحا من الآن للجميع أن الأسود ليس أفضل ألوان الطبيعة، وأن البكاء لا يصلح نشيدا وطنيا للبلاد، وأن نغمة إتهام الشعب- في المطلق- وتوبيخه -في المطلق- لن يقبلها الشعب المصري الكريم الذي لا يعرفونه.
د. عبدالهادي محمد عبدالهادي