الوقوف على طبيعة القوى المتنفذة على مستوى العالم، من يحكم العالم بالفعل
كيف تولدت هذه القوى وكيف تشكلت خصائصها من داخل النظام الرأسمالى العالمي
أن نخبة القوة الكوكبية تمر في الوقت الراهن بعملية إعادة هيكلة
هذا كتاب جاد، هام، مفيد، وجدير بالقراءة والمناقشة. الكتاب “نخبة القوة في القرن الواحد والعشرين”، والمؤلف هو الدكتور محمد عبدالمنعم شلبى أستاذ الاجتماع السياسى والخبير بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، وصدر فى عام 2018 عن دار النهضة العربية فى مصر.
يسعى الكتاب إلى الوقوف على طبيعة القوى المتنفذة على مستوى العالم، من يحكم العالم بالفعل، وما قامت به هذه القوى من أدوار طوال الفترة الماضية، وما تزال، مدفوعة بتوجهاتها الرأسمالية متعدية الجنسية، ومعتمدة فى ذلك على ما تحوزه من مقومات القوة: رأس المال، السلطة، والمعرفة/ الأيديولوجيا.
يرصد الكتاب كيف تولدت هذه القوى وكيف تشكلت خصائصها من داخل النظام الرأسمالى العالمي، ومن خلال تفاعلات البنية الطبقية فى مجتمعات المركز، وذلك على مدى عقود بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، واستمرت فاعلة حتى شهدت نقلة نوعية فى نهاية الثمانينات وأوائل التسعينات فى القرن الماضى، بسقوط التجربة السوفيتية وبزوغ عملية العولمة الراسمالية متعدية الجنسية.
ويوضح أن تشكيلة هذه القوى الرأسمالية الفاعلة لا تقتصر على المكون الاقتصادى، المتمثل بوضوح فى اصحاب الشركات ورجال الأعمال، بل تضم إلى جانبها نخبة السلطة السياسية والعسكرية، فضلا عن مكون آخر بالغ الاهمية، يتمثل فى نخبة المعرفة، بكافة فروعها وخاصة الاستراتيجية والمستقبلية.
كان عالم الإجتماع الامريكي “رايت ميلز” قد قدم فى الخمسينات من القرن الماضى دراسته الرائدة “نخبة القوة” (The Power Elite ) والتي رصد فيها القوى المتنفذة فى المجتمع الأمريكى فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومع التحول الرأسمالى الكوكبى، العولمة، نجد أن تلك النخبة قد تمددت واستنسخت أدوارها وصارت تمثلات هيمنتها على نطاق متعدى للجنسية، حتى بات من الممكن تبين حالة التبلور لنخبة قوة رأسمالية على نطاق الكوكب. تلك النخبة، التى بدأت مركزية فى حضورها الأبرز فى العواصم الرأسمالية مثل واشنطون، لندن، باريس، جنيف، روما، وطوكيو، لتضم لاحقا عواصم أخرى مثل سول، بكين، موسكو، ونيودلهي.
نادي النخبة غير مغلق أمام الأعضاء الجدد الذين يسعون إلى الإلتحاق، إلا أن شروط ومعايير هذا الإلتحاق تعد من الصعوبة بمكان، فهذا المنتدى لنخبة القوة يتيح لأعضائه المشاركة فى حكم العالم، بدرجات متفاوتة، فمنهم من يمتلك مقومات القوة فى أعلى مستوياتها ما يؤهله لفرض هيمنته كوكبيا وسياسيا واقتصاديا ومعرفيا، ومنهم من لا يطمح إلا فى فرض الهيمنة على نطاق إقليمي، دون التورط فى مواجهات تتجاوز هذا النطاق. ووفقا للكتاب تتكون نخبة القوة الرأسمالية متعدية الجنسية من:
أولا: قادة الأنشطة الاقتصادية، المشروعة وغير المشروعة، رؤساء مجالس ادارات المؤسسات والشركات متعدية الجنسية، زعماء الاقتصاد الموازى “الأسود” متعدى الجنسية.
ثانيا: قادة ورؤساء الدول الرأسمالية المركزية والاقليمية، بأطقمهم الاستراتيجية المكونة بالأساس من وزراء الدفاع والمخابرات والخارجية والمالية، فضلا عن مستشاريهم الرئيسيين، بالإضافة إلى مديرى ورؤساء المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة والبنك الدولى وصندوق النقد الدولى ومنظمة التجارة العالمية، جنبا الى جنب مع قادة ورؤساء المؤسسات والشركات الأمنية الخاصة، وكذلك زعماء الجريمة المنظمة متعدية الجنسية.
ثالثا: الخبراء والمستشارون والمهنيون والتكنوقراط والادارة الذين يعملون فى المؤسسات والمنظمات متعدية الجنسية، فى مجالات الإعلام والإعلان ومراكز التفكير الاستراتيجية و شركات المعلومات والدعاية ، جنبا إلى جنب، مع منظمات المجتمع المدنى والمنظمات الحقوقية، التي تتبنى وتروج لنموذج الديموقراطية التمثيلية، وأجندة حقوق الإنسان، والمنظمات التى تتبع الأحزاب السياسية الكبرى وأجهزة المخابرات فى المراكز الرأسمالية، حيث توفر لها الدعم اللوجستى والمالى على امتداد مناطق النفوذ والمناطق الأخرى التى يراد اختراقها حول العالم.
يرصد الكاتب أن نخبة القوة الكوكبية تمر في الوقت الراهن بعملية إعادة هيكلة، بسبب إلتحاق أعضاء جدد نسبيا أتوا من خلفيات متباينة وربما مغايرة تماما لما تأسست عليه النخبة الرأسمالية التقليدية، بالإضافة إلى تبعات وعواقب الأزمة الأخطر على النظام العالمى فى عام 2008، والتى لا تزال آثارها فاعلة حتى الآن.
إن ما يميز هذا الصراع عن سابقه الذى وسم فترة ما بعد الحرب العالمية، هو أن الصراع الراهن ينطلق ونخبه الحاكمة تتبنى نفس الأيديولوجيا الرأسمالية، فهو ليس صراعا بين أيديولوجيتين متعارضتين: إشتراكية ورأسمالية. ويعتقد أننا قد نكون شهودا على فترة فاصلة في الصراع على مناطق النفوذ في العالم، ويوضح ان نتائج هذا الصراع، هي التي ستقرر مراكز السيطرة والقيادة على مستوى الكوكب في العقود القادمة.
يناقش الكتاب الدور الذى لعبته نخبة القوة متعدية الجنسية فى إعادة تشكيل العالم وفقا لشروط ومصالح النظام الراسمالى الكوكبى بنزعته النيو- ليبرالية. ويرصد أن فرض الأيديولوجيا الرأسمالية، بنزعتها الليبرالية الجديدة (النيوليبرالية)، على دول العالم أتى بما لا تشتهي سفن النخب الرأسمالية.
حدثت المفاجأة، وتلقت قوى كبرى، لم تكن ضمن تشكيلة نخبة القوة الرأسمالية التقليدية، واستوعبتها جيدا ومن ثم تعلمت آليات عملها، ثم عكستها بطريقتها الخاصة. واعتمادا على ما تتمتع به هذه الدول من بناءات اجتماعية وثقافية، استطاعت منازلة القوى التقليدية القديمة فى ملاعبها ونافستها وهزمتها فى بعض الساحات. إنقلب السحر على الساحر، حتى وجدنا زعماء أعتى الرأسماليات الكوكبية ينادون بالحمائية ودور متعاظم للدولة القومية ويرفضون العولمة!
(كان هذا صحيحا حتى قبل ظهور جائحة كورونا، والتنافس المحموم على اللقاحات، والتي أظهرت بشكل جلي الدور المتعاظم للدولة القومية، وتنذر بمزيد من الإجراءات الحمائية والحروب التجارية المحتملة).
يناقش الكاتب عبر فصوله الستة، مقومات قوة النخبة الرأسمالية متعدية الجنسية: رأس المال، السلطة، والمعرفة، ويقرر أن هذه المقومات، لا تقتصر على هيئتها المشروعة والمعلنة، بل يحاجج بأن وجهها الآخر، الموازي، وغير المشروع، لابد وأن يتم الإنتباه إليه، بوصفه جزءا لا يتجزأ من المنظومة الرأسمالية الكوكبية، خصوصا أن النخب الحاكمة لم تتوقف يوما عن استخدامه واللجوء إليه، سواء فى فترات الهدوء النسبى أو فى فترات الصراع والحروب، وهى الفترات الغالبة على تاريخ الرأسمالية.
لا مواطنة حقيقية دون ديموقراطية حقيقية
المواطنة الديموقراطية تعني أن يشارك الجميع- دون تمييز- في جميع مصادر القوة الاجتماعية
ويناقش كذلك دور الرأسمالية الكوكبية فى إعادة تشكيل البنية الطبقية للنخب متعدية الجنسية في العالم، وما أفرزته هذه العملية -واسعة النطاق- من بزوغ لنخبة قوة تضم فئاتا من المواقع الطبقية الرأسمالية، إلى جانب أخرى من المواقع الطبقية الوسطى. ويفصل فى خصائص مقومات ومحددات قوة هذه النخب متعدية الجنسية المتمثلة فى رأس المال والسلطة والمعرفة، وكيف تمارس تلك النخبة قوتها، بوجهيها المشروع وغير المشروع، فى الهيمنة على العالم وإخضاعه، ومحاولة إعادة إنتاجه وفقا لشروطها فى الإحتكار والربح وبسط النفوذ.
في الفصل الأول يعرض الكاتب لمفهوم وواقع العولمة الرأسمالية وإعادة تشكيل البني الطبقية متعدية الجنسية. وفي الفصل الثاني يناقش بالتفصيل مفاهيم رأس المال والسلطة والمعرفة، ويوضح الفارق بين رأس المال المادى والرمزى، وكيف يمكن ترجمة و تحويل السلطة إلى المعرفة أو رأس المال، أوالعكس. ويوضح كيف أن السلطة لا تقتصر على تلك السلطة القاهرة للدولة، بل تتوزع على درجات ومستويات مختلفة فى المجتمع.
وفى الفصل الثالث يعرض للتشكيلة العامة لنخبة القوة الراسمالية متعدية الجنسية، وأجهزتها ومؤسساتها وأدواتها، مثل مؤتمر دافوس، ومائدة كوكس المستديرة، ومنظمة بيلديربيرج. وفى الفصل الرابع يعرض للوجه الظاهر لنخبة القوة الرأسمالية: الدولة القومية، المؤسسات متعدية الجنسية، مراكز المعرفة والتفكير وصناعة القرارات الاسترتيجية، وفى هذا السياق، يضرب مثلا بمركز الدراسات الدولية والاستراتيجية، ومؤسسة “راند”.
فى الفصل الخامس يستعرض بعضا من ملامح الوجه الخفى لنخبة القوة الرأسمالية متعدية الجنسية، الإقتصاد الأسود والسياسة السوداء، كما يفصل فى عرض بعض وجوه الإقتصاد الاسود والسياسة السوداء ودورها فى الصراع.وتفعيل الصراعات المسلحة والتجسس والاغتيالات السياسية.
لم يتعرض الكتاب، لظاهرة هامة وحديثة نسبيا، هي ظاهرة ما يسمى بشركات السياسة أو “شركات الإستشارات السياسية”، مثل مجموعة شركات “SCL”، التي كانت إحدى شركاتها “كمبريدج- أناليتيكا”، وشركات إسرائيلية مثل “بلاك كيوب”، وبريطانية مثل G4S، وأدوارها السياسية، البيضاء والسوداء، في الإنتخابات الأمريكية عام 2016، وإستفتاء خروج بريطانيا من الإتحاد الأوربي، وعدد من الإنتخابات البرلمانية والرئاسية في كثير من دول العالم.
فى الفصل السادس، والأخير، يسعى الكاتب لتلمس صورة البديل الممكن لهذا العالم، فاستمرار احتكار رأس المال والسلطة والمعرفة فى قبضة النخبة متعدية الجنسية سيفضى إلى مزيد من الإضطراب والصراع والعنف حول العالم. والبديل لهذا النظام الاحتكارى ينضج على مهل، فى هيئة حركات وتكتلات بازغة، هجرت المقولات القديمة والسرديات الكبري، وتمارس على الأرض حراكا يؤسس لعالم جديد قائم على نوع جديد من الديموقراطية، نظام جديد قائم على ديموقراطية تشاركية، تضمن تكافؤ الفرص وتحقق العدالة، ديموقراطية تناضل ضد احتكار رأس المال والسلطة والمعرفة، هذا هو الطريق الوحيد والممكن لضمان إعادة التوازن بين الانسان والمجتمع، بين الانسان والكون، وان يعود الانسان، مرة أخرى، إلى إنسانيته التى أفقده إياها مجتمع الصراع والمخاطرة.
في خاتمة الكتاب يتحدث الكاتب أيديولوجيا تسويق الرأسمالية على أنها نهاية للتاريخ، وأنها الصيغة الوحيدة الممكنة لسياسة العالم، لكن التاريخ لم ينته بعد، فمن الضروري الإنتباه إلى أن المواطنة تتطلب، فضلا عن نظام ما للإلتزامات، حسا بالإنتماء والتضامن الاجتماعي واستقلال الفكر والعمل وضربا من المساواة في الحقوق بين الناس، ومن ثم لا مواطنة حقيقية دون ديموقراطية حقيقية. والمواطنة الديموقراطية تعني في جوهرها أن يشارك الجميع- دون تمييز- في جميع مصادر القوة الاجتماعية من رأس مال وسلطة ومعرفة، وأي حديث عن المشاركة دون تحديد لماهية هذه المشاركة وموضوعاتها لهو من قبيل الرطانة واللغو الفارغ.
إن تحول القوة إلى الناس أنفسهم هو مدخل التنمية الإنسانية، والتي تعرف على أنها عملية توسيع للخيارات، في كل يوم يمارس الإنسان خيارات متعددة، بعضها اقتصادي وبعضها اجتماعي وبعضها سياسي وبعضها ثقافي، وبما أن الإنسان هو محور تركيز جهود التنمية، فإنه ينبغي توجيه الجهود نحو توسيع نطاق خيارات كل إنسان في كافة الميادين. إن تنمية الإنسان هي تنمية لفرصه وحقوقه في الحياة، في أن يكون منتجا ومبدعا ومتمتعا باحترام الذات وحقوق الإنسان دون تمييز.