يعد الغلاء المشكلة الأولى التى يعانى منها المواطنون المصريون اليوم . ويعد مع عجز الموازنة وانفلات الدين العام عموما ومعه الدين الخارجى بشكل خاص أبرز مؤشرات الأزمة الإقتصادية الراهنة التى قادتنا لها سياسات السلطة الحاكمة . ويتميز الغلاء بشكل خاص بين المشكلات الإقتصادية الأخرى بأنه الظاهرة التى يشعر بها المواطنون بشكل مباشر لأنها تتصل بحياتهم اليومية ومعيشتهم فى كل مناحيها ، إذ يتعرض مستوى معيشتهم نتيجة لهذا للغنخفاض بشكل مطرد ، ويصبحون عاجزين عن الوفاء باحتياجاتهم المعيشية الأساسية ، ولهذا كان الغلاء ومايزال احد الأسباب الرئيسية للإحتجاج الجماهيرى ضد سياسات الإستغلال والتمييز و الظلم الإجتماعى . أولا – تطور الغلاء ( التضخم ) و أبعاده الغلاء هو إرتفاع الأسعار أو مايعرف بالتضخم . وهو يقاس بعدة طرق ، و أكثرها شيوعا هى طريقة الرقم القياسى لأسعار الستهلكين ، الذى يحدده على أساس الزيادات الشهرية و السنوية لسلة مختارة من السلع و الخدمات التى يستهلكها المواطنون . وتقليديا شهد الإقتصاد المصرى معدلات مرتفعة للتضخم و الغلاء بفعل سياسات الإنفتاح العشوائى التى شهدتها مصر على مدار الأربعين عاما الماضية . وكان معدل التضخم فى معظم السنوات أعلى من الدول الأخرى ، بما فيها الدول المناظرة لنا . ويعتبر الإقتصاديون التضخم مرتفعا إذا وصل إلى 10 فى المائة ، ولايعتبر المعدل معقولا إلا إذا كان فى حدود 6 فى المائة . وفى سنوات حكم السادات ومبارك كان التضخم عموما فى عداد المعدلات المرتفعة ، حيث وصل فى المتوسط إلى 14 فى المائة فى الفترة 1975-1985 ، ثم إرتفع إرتفاعا إضافيا كبيرا ليصل إلى حوالى 20 فى المائة فى الفترة 1985-1991. وقد وقعت مصر بعد ذلك إتفاقا للتثبيت و التكيف الهيكلى مع صندوق النقد و البنك الدوليين ، طبقت معه سياسات إنكماشية وخفضت العجز فى الموازنة العامة ، ونجحت مع هذا فى ظل ذلك لخفض التضخم لحوالى 7 فى المائة فقط فى الأعوام 1991- 2005 .ومع ذلك بدأ معدل التضخم بدوره يتزايد من جديد فى السنوات الاخيرة لحكم مبارك . و إذا أتينا لموجة التضخم و الغلاء التى نعيشها اليوم لوجدنا أنها أكبر و أعتى موجة غلاء يعيشها المصريون على الإطلاق . ففى فترة مابعد ثورة يناير المجيدة حافظ الإقتصاد المصرىعموما على معدل للتضخم تحت الخط الاحمر المذكور ( يعنى أقل من 10 فى المائة ) . ولكن فترة رئاسة السيسى تميزت بتضخم صاعد وزاحف بالتدريج حتى وصل لرقم غير مسبوق . فقد تزايد معدل التضخم تدريجيا من 6.7 فى المائة فقط عام20121- 2013 إلى 10.3 فى المائة فى عام 2013 -2014 ،. ثم واصل الإرتفاع مجددا ليصل إلى 16.4 فى المائة فى شهر أغسطس 2016 . ومع الحصول على قرض صندوق النقد الدولى ، بعد تقديم الحكومة المصرية لخطاب نوايا له ، وتوقيع إتفاق مع الصندوق ، قفز التضخم و الغلاء قفزة هائلة اخرى تتجاوز 100فى المائة مرة واحدة ، حيث وصل معدل التضخم فى شهر يوليو 2017 إلى 35.26 فى المائة . بمعنى آخر فإن الغلاء أو التضخم تضاعف فى 4 سنوات فقط بما يصل إلى 350 فى المائة ، وهذه أعلى نسبة غلاء يشهدها المصريون . ثانيا أسباب و سمات موجة الغلاء الراهنة نستطيع إذن أن نرى أن موجة الغلاء و التضخم الحالية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالسياسات الإقتصادية للسلطة الحالية ، و ان الإتفاق مع صندوق النقد الدولى قد لاادى لزيادة التضخم وليس خفضه على خلاف ماهو معلن من أهداف لهذا الإتفاق . وهذا عكس ماتم فى الإتفاق القديم مع الصندوق عام 1991 ، حيث نجحوا فى خفض التضخم حينها لعدد من السنوات . و الأسوأ فى الامر هو ان الإقتصاد المصرى يعانى حالة من الركود التى يستشرها الجميع . و إذا كان الاتفاق القديم قد أدى أيضا لسنوات من الركود و النمو البطئ ، فعلى الأقل نجح لفترة فى خفض التضخم ، ولكننا اليوم نعيش التضخم و الركود معا . إنه اسوأ ظاهرة إقتصادية ، وهو مايسمى الركود التضخمى . وبالإضافة لما سبق تتميز موجة الغلاء الراهنة بأنها تجرى بالتوازى مع توجه حكومى و صندوقى لوقف الزيادات فى الأجور ، وخفضها عمليا بشكل متواصل ، وذلك سواءا من زاوية الأجر الحقيقى ، أو نسبة الأجور فى الإنفاق العام .لقد انخفضت بشكل كبير منذ عام 2014 ، مما يؤدى لمزيد من الضغط على الجماهير ، ويوضح أن أسباب الغلاء لايدخل فيها أجور العاملين كما يدعون غالباا ، بل السياسات غير الرشيدة للحكومة . ونشير هنا فقط إلى ان نسبة الاجور فى إجمالى الإنفاق الحكومى تنخفض سنويا بشكل مطرد ، حيث كانت 24.5 فى المائة فى عام 2013-2014 ،بينما تصل فى الموازنة الحالية إلى 16.1 فى المائة فقط . إن الموزنة أصبحت موجهة لسداد الفوائد وخدمة الديون . ومن المهم هنا أن نشير إلى إن عبئ التضخم يقع على المواطنين بشكل غير متساوى ، هذا مع التسليم بصحة الأرقام الحكومية . فالغلاء بنسبة 35 فى المائة هو متوسط عام ، ولكن أسعار السلع تزيد بنسب مختلفة ، ومن الثابت أن أكبر نسبة للزيادة هى لأسعار السلع الرأساسية التى ينفق الفقراء معظم دخلهم عليها . ونشير هنا لان أسعار الطعام و الشراب الذى يهم الفقراء زادت وفق الارقام الرسمية بنسبة 43 فى المائة ، بينما زاد سعر الخبزبنسبة 48 فى المائة ، وسعر الزيت بنسبة 59.9 فى المائة ، والسكر بنسبة 86.3 فى المائة . إن أسباب موجة الغلاء الراهنة متعددة ، وترجع إلى فشل الحكومة حتى الآن – على خلاف ماهو معلن – فى السيطرة على عجز الموازنة العامة ، حيث يصل العجز هذا العام إلى 370 مليارجنيه ، ومن الممكن ان يزيد عن ذلك ، ثم رفع الدعم عن السلع الرئيسية وفى مقدمتها الطاقة و الكهرباء ، بما ينعكس على مجمل الاسعار ، وتعويم الجنيه بما أدى لارتفاع الدولار فى مواجهته من حوالى 8 جنيهات لما وصل إلى 18 جنيها ، ثم المشروعات غير الإنتاجية الكبيرة غير المدروسة جيدا التى تورطت فيها الحكومة ، من طرق صحراوية وقناة السويس الجديدة ، للعاصمة الجديدة ، لرفع أسعار الفائدة أكثر من مرة مما كلف الخزانة العامة مبالغ طائلة إضافية ، وزاد من عجز الموازنة . ولابد أن نشير فى النهاية للسياسات الإحتكارية لعدد من الشركات الكبرى فى مجالات مختلفة كالحديد و الدواء و المحمول ، وهى سياسات إستغلالية تتساهل معها الحكومة . ثالثا _ الآثار الإجتاعية و الإقتصادية للتضخم و الغلاء كما نرى فإن الغلاء هو العدو رقم واحد لجموع العاملين و الجماهير الشعبية و الطبقة الوسطى . إنه يحملهم أعباءا كبيرة ، ويؤدى لخفض أجورهم الحقيقية ، ونهب مدخراتهم ، و خفض مستوى معيشتهم ، وزيادة معدلات الفقر ، حيث تشير التقديرات إلى انها تجاوزت معل 40 فى المائة القديم ، وتجاوزت عتبة ال60 فى المائة ، بعد هذه الموجة الضارية للغلاء . وعلى الجانب الآخر فهناك فئات مستفيدة من التضخم . إنهم أولا أصحاب الودائع بالعملات الأجنبية ، الذين استفادوا من زيادة سعر الدولار استفادة كبيرة ، و الشركات الأجنبية التى تريد شراء الأصول المملوكة للشعب التى تطرحها الحكومة للبيع ، و المضاربون الأجانب من أصحاب الأموال الساخنة الذين يربحون من أسعار الفائدة العالية جدا التى تدفعها الحكومة المصريى على أذون وسندات الخزانة المصرية ، وكافة الشركات الإحتكارية التى تستفيد الة الفوضى المصاحبة للغلاء وتغنم أرباحا مضاعفة ويعنى هذا أن التضخم و الغلاء ليس مجرد سياسة للإفقار العمدى للجماهير ، بل هو مع ذلك مخطط لإعادة توزيع الدخل القوممى لصالح قلة من رأسمالية المحاسيب . من أجل ذلك كله فإن الغلاء هو محور بارز لنضالنا مع جماهير الشعب المصرى . ، بالطبع يمكننا دائما تبنى كافة الشعارات المطلبية للجماهير و العاملين لتحسين اوضاع العمل وزيادة الأجور ، ويمكننا تجميع الجماهير و القوى الشعبية ضد الزيادات الفاحشة فى الأسعار و الممارسات الإحتكارية ، ولكننا مع ذلك ينبغى أن نناضل ضد أسس تلك السياسات الحكومية ، وفى صلبها الإتفاق المشؤوم مع صندوق النقد الدولى ،التوسع فى الديون ، وفرض إجراءات تقشفية ، وتحميل اأعباء للجماهير العاملة و الشعبية . وكل ذلك لايكمله إلا سعينا من أجل سلطة جديدة ديموقراطية منحازة للشعب ولمبادئ وشعارات ثورة يناير فى العيش و الحرية و العدالة الإجتماعية و الكرامة الإنسانية .

دكتور زهدي الشامي نائب رئيس الحزب