كتب إلهامي الميرغني
قد يعتقد البعض أن الاستبداد متركز في طريقة الحكم وسلطات البرلمان وحريات الأحزاب والتعبير أو في شخصية الحاكم وطريقة إدارته للحكم.لكن لكي يكون الحاكم مستبد والدولة استبدادية فإن ذلك لا يتوقف علي شخص واحد أو مؤسسة واحدة بل يمتد ليشمل كافة مؤسسات وطبقات المجتمع التي تشكل ظهير لنظام الاستبداد.
قديما كتب أبن خلدون “الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها” وبالتالي ربط بين الاستبداد والفساد والعنف وسوء الأخلاق . نفس المعني أكده عبدالرحمن الكواكبي في ” طبائع الاستبداد” .
والاستبداد يبدأ مع الطفل منذ نعومة أظافره اذا التحق بكتاب لحفظ القرآن الكريم ليحفظ الكلمات ويرددها فقط دون أن يعي معناها . وهي مرحلة الأعداد الأولي . ومع التحاقه بمراحل التعليم المختلفة يجد ان المناهج المعتمدة علي الحفظ والتلقين هي اساس وأنه لا توجد فرصة للمناقشة والحوار من أجل تعميق المعرفة . وعندما يسأل طالب أو طالبة يردد الاساتذة هي كدة واحفظها زي ما هي في كتاب الوزارة .
كذلك فإن تعدد أنظمة التعليم من تعليم ديني الي تعليم حكومي مجاني الي تعليم بمصروفات حكومي وخاص الي مدارس لغات ثم تعليم دولي يؤدي لتفتت المجتمع طبعا للطبقات الاجتماعية التي تلتحق بكل نوع من أنواع هذا التعليم . كما ان طبيعة العلاقات في المؤسسات التعليمية تقوم علي الخوف من المعلم وليس احترامه وتقديره. ويتوقف نجاح الطالب علي مدي دقة حفظه للمناهج وليس فهمه لمضمونها .
وللاسف ينطبق نفس النظام علي التعليم الجامعي والتعليم ما بعد الجامعي الذي يقتصر علي المحاضرات والتلقين وحتي الابحاث التي تطلب يشتريها الطلاب جاهزة ومكتوبة ومطبوعة من مكتبات معروفة ويضعوا عليهم اسمائها . بل ان رسائل الماجستير والدكتوراة يمكن الحصول عليها بدفع مقابل مادي للمشرف أو شراء رسالة جاهزة او سرقة رسالة سبق تقديمها ورغم ذلك يحصل علي الدرجة العلمية ويتصدر الإعلام كخبير في مجال علمه.
كذلك علي مستوي الأسرة المناقشة ممنوعة ومحظورة وما يقوله رب الأسرة ينفذ بدون مناقشة لأنه يملك سلطة الصرف والمنح والخروج عليه يعني حرمان من كل هذه المزايا وادعاءات بتفتيت الأسرة .
وعندما يلتحق الشاب/ة بعمل فسيجد عدة أنواع من القيادات :
النوع الأول جاهل ويدعي المعرفة ويفرض رأيه ولا يقبل المناقشة ومحاولة المناقشة قد تقود للخضم من الأجر وربما الفصل وفقدان العمل .وهو أيضا يريد تنفيذ التعليمات دون شرح أو مناقشة . ” هي كدة “.
النوع الثاني أهل الثقة وهم مجموعة من المنافقين الذين يحتلون المناصب القيادية رغم انعدام كفائتهم ولا يستطيع أحد الأقتراب منهم لأنهم مرضي عنهم من ” الناس اللي فوق ” ومن الأجهزة الأمنية التي تدير مصر منذ عقود طويلة من الزمن.
النوع الثالث شاب منافق ومتملق صعد واحتل وظيفة قيادية بحكم نفاقه دون أن يمتلك اي مقومات قيادية .
بالتالي فإن جموع العاملين مضطرة للتعامل مع اي من هذه الأنماط دون مناقشة او حوار جاد ليزيد الاستبداد. وعندما يقود عديمي الخبرة والكفاءة ويتم تنحية المجدين والمجتهدين يختل الميزان ويسود الاستبداد.
وعندما يعود الانسان للمنزل يخضع لغسيل مخ من أجهزة الاعلام في نشرات الأخبار التي تصاغ وفق رؤية الأجهزة الأمنية وفي البرامج الحوارية التي يدرك الجميع مدي فججاتها وفبركة ما بها وحتي الآغاني والمسلسلات والأفلام كلها ترسخ لواقع الاستبداد ، اضافة للعديد من الجهات الرقابية التي تصفي اي عمل جاد أو يدعوا لقيم الديمقراطية من أجل أعادة إنتاج الاستبداد الذي تدعمه ترسانة من التشريعات وغياب حرية القضاء وغياب المجلس التشريعي الذي اصبح جزء من السلطة التنفيذية .
ولذلك يتجنب المصري السياسة والكلام فيها لأنها تجلب البهدلة والاضطهاد والسجون.وكم من موظف اشتكي رئيسه الفاسد لتعود الشكوي لنفس الشخص لبحثها والرد عليها. ولو لاحظنا نسبة المشاركة في التصويت في النقابات المهنية والانتخابات المحلية والبرلمانية سنجدها ما بين 10% الي 25% فقط يشاركون بينما أكثر من 75% لديهم عزوف عن المشاركة لمعرفتهم بالنتائج المسبقة. ويخضع الانسان في كل مراحل حياته لمراقبة صارمة من عدد لا حصر له من الأجهزة الأمنية التي تضع عنه التقارير التي تشكل مسار حياته .
هذا الانسان عندما يبني اسرة جديدة يعيد تجربة الآستبداد التي كان يعاني منها في طفولته.لذلك فإن الاستبداد في مصر ليس مجرد فساد حاكم أو مؤسسة حكم ولكنه منظومة متكاملة تحكم حياة المصريين من المهد الي اللحد وتضمن إعادة إفراز وإنتاج نفس نظام القهر والاستبداد.
لذلك تغيير الواقع الي ديمقراطية حقيقية يبدأ من الأسرة ثم المؤسسات التعليمية والثقافية والمؤسسة الدينية والاعلام .واذا لم تتكامل هذه المراحل سنظل اسري استبدال مستبد بمستبد اخر .
الديمقراطية الحقيقية والمشاركة الشعبية علي جمع المستويات ضرورة لكي نلحق بركب الحضارة قبل ان نصبح خارج الزمن .
إلهامي الميرغني
18/12/2019