الرئيسية » عربي ودولي » عبد المولى إسماعيل يكتب عن سدُّ النّهضةِ ….ودَورُ مؤسّساتِ التمويلِ الدوليّة في تسليع مياه النيل ( 1 )

عبد المولى إسماعيل يكتب عن سدُّ النّهضةِ ….ودَورُ مؤسّساتِ التمويلِ الدوليّة في تسليع مياه النيل ( 1 )

سدُّ النّهضةِ ….ودَورُ مؤسّساتِ التمويلِ الدوليّة في تسليع مياه النيل

عبد المولى إسماعيل*

أعد هذه الدراسة الأستاذ عبدالمولي إسماعيل ونظراً لأهمية الموضوع رأينا نشرها علي حلقات ونبدأ اليوم بالحلقة الأولي من الدراسة .

مُقدّمة

مصرُ “هبةُ النيل” مقولةٌ ردّدها العالم اليوناني “هيرودت” عندما زار مصر منذ قرونٍ مضت قبل الميلاد، ولكن هل ستظلُّ مصرُ هبةً للنيل أم أنّ القادمَ أخطرُ؟ في ظلّ قيام إحدى دول المنبع وهي أثيوبيا ببناء سدّ “النهضة” والذي سبقه بعض السدود الصغيرة مثل سدّ بليس ، وسيتبعه لاحقًا سدودٌ أخرى، الأمر الذي سينعكسُ بالسلب على وضعية دولة المصبّ(مصر) والممرّ “السودان” تأثّرًا بالغًا.

وفي هذا الصدد تذهبُ كثيرٌ من الآراء في طرح عدّةَ تساؤلات، بعضُها يذهبُ إلى أحقّية دول المنبع في الأنهر الدولية من إنشاء السدود التي تساعدها على تنمية مواردها الاقتصادية بينما، على الجانب الآخر، هناك حالةٌ من الرفض لمشروعات السدود بالنسبة لدول المصبّ التي تتشارك مع دول المنبع في تلك الأنهار الدولية بدعوى التحكُّم في مواردها المالية بوساطة دول المنبع، إضافة إلى التأثير السلبي الذي سيلحقّ بحقّ مواطني تلك البلدان في الوصول للمياه.

وبعيدًا عن تلك الآراء، فإنّ هناك كثيرًا من المشكلات الإيكولوجية السلبية والمدمّرة للموائل الطبيعية المصاحبة لبناء السدود عامة.

في السياق ذاته، يبرز خطاب سائد تروِّجه مؤسسات التمويل الدولية بأن إدارة الأحواض النهرية هي قضايا ذات طابع فنّي بحت بعيدًا عن أي أبعاد أخرى وبخاصة البعدُ السياسي والاقتصادي في آنٍ واحدٍ معًا، وفي هذا الإطار يتمّ تناول قضايا السدود والتي من بينها سدُّ “النهضة” باعتبارها قضايا ذات طابع فني، حيث يتمّ حصر المفاوضات في هذا الجانب، في حين يتمّ استبعاد ما هو سياسي واقتصادي من تلك المفاوضات، في هذا السياق يأتي اتفاق الخرطوم الذي جرى التوقيع عليه بين مصر والسودان وأثيوبيا والذي سبقه اتفاق “عنتيبي” الذي جرى التوقيع عليه في أيار/مايو 2010 بين عدد من دول حوض النيل باستثناء مصر، والسودان، وإريتريا.

وكانت أثيوبيا قد قامت بفعل استباقي بعيدًا عن أيّ مشاورات مع دول حوض النيل وبخاصة دولتا المصبّ والممرّ بداية من عام 2010 بتوقيع اتفاقية “عنتيبي” بمشاركة بعض دول حوض النيل، ثم لاحقًا جرى التوقيع على اتفاق الخرطوم في 10 مايو 2015 الخاصّ بكونه اتفاقًا عامًّا للتعاون المشترك.

وفي اعتقادنا أنّ الجدل المثار حول سدّ “النهضة” وغيره من السدود التي تقام على الأنهار الدولية يأتي في إطار السياسات الدولية الرامية إلي إحكام السيطرة على موارد المياه بوساطة الشركات عابرة القومية وبدعم ومساندة من مؤسّسات التمويل الدولية وبخاصة البنك الدولي والاستثمار الأوربّي، ….إلخ.

ولعلّ الهدف من وراء دور هذه المؤسّسات هو تحويل تلك الأنهار العالمية التي تدخل ضمن إطار المِلكْ العام للأمم والشعوب التي ظلّت تتعاون فيما بينها في إدارة تلك الموارد في إطار القيمة الانتفاعية إلى قيم تبادلية لصالح الشركات الكبرى ومؤسّسات التمويل الدولية.

ولعلّ سدّ النهضة يمثّل واحدًا من تلك التجارب التي تهدف لأن تكون نموذجًا يُحتذى في خلق أسواق دولية للاتجار في المياه.

وما يعنينا في هذه الورقة المنهجية المبنية على الحقّ في الوصول للمياه، باعتباره حقًّا أصيلا لكل إنسان بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى، ومن ثم فإن السؤال الذي يطرح نفسه، هل بناء سد “النهضة” أو غيره من سدود تقام على منابع الأنهار هو حق لدول منابع الأنهار، أم كونه مدخلًا للتحكّم والسيطرة الاقتصادية والسياسية؟، وأيضا لخلق وجني الأرباح بوساطة مؤسسات التمويل الدولية وشركات الاتجار في المياه عابرة القوميات مثال فيوليا، السويس ….إلخ.

في المقابل، يتمّ تغليف خطابات التحكّم والسيطرة على منابع الأنهار بخطابات من قبيل حقوق الدول في التنمية في الوقت الذي تسعى فيه تلك الدول على الضفّتين في المضي قدمًا في تسليع الموارد الطبيعية وفي القلب منها الحقّ في المياه.

في هذا السياق تأتي هذه الورقة التي تحاول أن تتناول قضية سدّ “النهضة” كنموذج تروّج له شركات المياه عابرة القومية ومؤسّسات التمويل الدولية لخلق الأسواق الدولية للتجارة في المياه، والانتقال من كون الماء حقًّا إلى سلعة تباع في الأسواق الدولية، وفي ضوء هذه الإستراتيجية تتحرّك السياسات المائية في دول حوض النيل.

ونحاول أن نتناول هذه القضية في عدد من المحاور نتناول في المحور الأول منها سياسات تسليع المياه من البنك الدولي إلى دول حوض النيل، وفى المحور الثاني نتناول بعض الحقائق المتعلقة بواقع الموارد المائية في دول حوض النيل وبالتركيز على أثيوبيا ومصر، بينما نتناول في المحور الثالث طبيعة الخلاف الناشئ بين مصر وأثيوبيا بدلًا من التعاون المشترك، وفى المحور الرابع نعرج على الإدعاءات التي تتناولها خطابات دول حوض النيل في التأكيد على الحق في المياه في الوقت الذي تقوم فيه بتنفيذ سياسات تقوم على مبدأ التسليع، بينما في المحور الخامس نشير إلى بعض البدائل التي يمكن استخدامها للخروج من نفق الندرة المائية بدول حوض النيل.

المحور الأول: سياسات تسليع المياه من البنك الدولي إلى دول حوض النيل .

على الرغم من العديد من الدراسات التي قامت بها منظّمات المساءلة في دول عديدة إلّا أنّ خصخصة الموارد المائية لم يأتِ بفائدة لأفقر فقراء العالم ولا كانت ذات جدوى اقتصادية، ومن ثم نادت كثير من الدراسات بأن يكفَّ البنك الدولي عن بذل كافة الجهود في خصخصة قطاع المياه والاستعاضة عن ذلك بالاستثمار في نظم تقوم على مزيد من المساءلة العلنية من قبل المواطنين [1].

إلا أنّ البنك الدولي وفى رسم سياساته لا يكفُّ عن ربط الاستدامة المائية بآليّات السوق، يعاونه في ذلك كثير من المؤسسات وبعض منظّمات المجتمع المدني التي تتذيل خطاباته التي تعمد إلى الترويج إلى ربط استدامة الموارد المائية بآليات السوق.

فقد عمد البنك الدولي على الاستثمار في قطاع المياه على الصعيد الدولي حيث تُعدّ مجموعة البنك الدولي أكبر مصدر عالمي للتمويل الخارجي للتدخّلات ذات الصلة بالمياه. وبلغ إجمالي الموارد المالية المُقدَّمة من البنك الدولي للإنشاء والتعمير والمؤسسة الدولية للتنمية لتمويل مشروعات المياه والصرف الصحي خلال خمس سنوات في الفترة من 2009 إلى 2013 الماضية ما قيمته 16,9 مليار دولار[2]

وفى المنطقة العربية وعلى مدار ما يقرب من 60 عامًا بدأت منذ 1961، بلغت جملة تلك الاستثمارات ما يزيد عن الــ15 مليار دولار في 284 مشروعًا اختصت مصر وحدها بـ25 مشروعاً [3]، وعلى الرغم من هذه الاستثمارات مازالت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تعاني المزيد والمزيد من المشكلات المائية بشهادة البنك الدولي ذاته.

وتقوم رؤية البنك الدولي الأساسية في مجال إدارة المياه على عدد من المحاور الأساسية التي تشير إلى أنّ تحقيق الأمن المائي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يتطلّب طريقة جديدة للنظر إلى إدارة المياه. فقد أدّت السياسات والحوافز ومواطن الضعف المؤسّسي في بلدان كثيرة إلى الاستخدام عديم الكفاءة متدنّي القيمة للمياه بالإضافة إلى تقديم خدمات للمياه لا يعتمد عليها، وعدم تنظيم استخدام المياه وتصريف المياه العادمة. وعلى الرغم من ندرة المياه، تعتبر رسوم خدمات المياه في المنطقة شديدة الانخفاض، ويعتبر الدعم الفعلي للمياه في المنطقة الأعلى في العالم وتشجّع هذه السياسات تدهور الموارد ، وتفاقم عجز الموازنات، وتزيد مكامن الضعف تعقيدا. وسيكون للطريقة التي يتمّ إيصال المياه بها وتخصيصها وتسعيرها وإدارتها تداعياتٌ عميقةٌ على النموّ الاقتصادي في المنطقة، وستحدّد هيكل اقتصادها واستدامتها البيئية الاحتواء الاجتماعي والاستقرار الإقليمي[4].

وعلى المجتمعات أن تتجاوز النهج التقليدي في إدارة هذه الندرة بتعزيز الإمدادات والنظر في الحلول المثيرة للجدل، والتي قد تشمل سياسات تتمخّض عن حوافز للمحافظة على المياه وكفاءة استخدامها، بما في ذلك الرسوم والغرامات والتصاريح والتسعير، وكذلك إعادة تدوير المياه العادمة وإعادة استخدامها، وإعادة تخصيص المياه من المستخدمين الريفيين إلى المستخدمين بالمدن ومن الزراعة إلى الصناعة، أضف إلى ذلك أنّ الاحتواء الاجتماعي يجب أن يكون محوريًّا لتقديم خدمات المياه وسبل حماية القطاعات السكانية الفقيرة والمهمّشة من المخاطر المرتبطة بالمياه[5].

ويكمن جزء من تحدي المياه في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في إدارة الطلب ووضع الحوافز المناسبة للاقتصاد في المياه، وهذه قضايا حسّاسة سياسيًّا لكن مثل هذه الإدارة لا غنى عنها، لتحسين تقديم خدمات وإنتاجية الموارد المائية. وبإمكان رسوم خدمات المياه أن تشجّع على المحافظة عليه. وبإمكانها أيضًا توفير التمويل لحماية الموارد المائية وصيانة البنية التحتية وتقديم الخدمات[6]

ويستلزم إدارة الموارد المائية في المنطقة بشكل أفضل والموازنة بشكل مستدام بين العرض والطلب عن طريق ثلاث إستراتيجيات يمكن انتهاجها لتعزيز الأمن المائي، وهي:

– خفض استخدام (أو فقدان) المياه للحدّ من الطلب.

تشمل إستراتيجيات إدارة الطلب رسوم خدمات المياه والتسعير اللذين يجسدان ندرة المورد ويشجعان على الحفاظ عليه؛ والحوافز والتقنيات الرامية إلى زيادة الإنتاجية وتحسين الكفاءة؛ ومكافحة الفقد والتسرب.

– إعادة تخصيص المياه لمواءمة الطلب.

تشمل اللوائح التنظيمية والأدوات المستندة إلى السوق تخطيط وتحديد أولويات استخدامات المياه عالية القيمة التي تقابلها ضمانات للإنصاف والاستقرار الاجتماعيين؛ وحقوق المياه والدعم المالي وسياسات التسعير؛ واللوائح التنظيمية والإنفاذ لمكافحة الاستغلال المفرط غير المخطط.

– توفير (أو إيجاد) مزيد من المياه لتلبية الطلب.

تشمل الاستجابات على جانب العرض تطوير محفظة متنوعة من الموارد المائية التقليدية وغير التقليدية؛ والاستخدام المنسق للمياه السطحية والجوفية؛ وتجميع مياه العواصف وإعادة تدوير المياه العادمة وإعادة استخدامها

وفى ضوء خطابات البنك الدولي أنّ عدم تسعير خدمات المياه بشكل سليم يؤدّي إلى تقويض الاستدامة المالية لتلك الخدمات. ويفوق متوسط تكاليف الخدمة متوسط رسوم الخدمة في معظم بلدان الشرق)، (الجمعية العربية لمرافق المياه 2014) ممّا يدلّ على نقص استرداد التكلفة. ويبلغ السعر الذي يتمّ تحميله على مستهلك المياه في المنطقة العربية في المتوسط 35 % من تكلفة الإنتاج من المصادر التقليدية. وفي حالة المياه المحلّاة لا تغطّي الرسوم إلا 10% فقط . ويعتبر استرداد لضمان استدامة خدمات المياه على المدى الطويل، كما أنّ عدم استرداد التكاليف بإمكانه أن يقوّض بشدّة قدرة مرفق المياه على معالجة المياه العادمة وأيضًا يؤدّي إلى تدهور جودة المياه وتدهور النظم الأيكولوجية للمياه العذبة[7].

ويضع البنك الدولي في دراسته تلك إشارة إلى المقارنة بالأسعار على المتر مكعب من استهلاك المياه في بعض بلدان المنطقة العربية ومثيلتها من البلدان الأخرى، فعلى سبيل المثال لا تتجاوز قيمة المتر مكعب من استهلاك المياه في القاهرة، والإسكندرية، وبيروت ، وجدة، ودمشق النصف دولار نجدها في مدينة لندن مثلًا تصل إلى أربعة دولارات للمتر مكعب الواحد، وفي الوقت الذي تزيد فيه عن الدولار الواحد بالنسبة لمدن عربية كالدار البيضاء والرباط وتقترب من الــ2 دولار في رام الله ومسقط وأبوظبي

إنّ تثمين وتسعير المياه قضية حسّاسة سياسيًّا ولكنّه أمر ضروري، وفى استقصاء حديث أجراه “المنتدى العربي للبيئة والتنمية” أنّ 77% من المشاركين في هذا الاستقصاء مستعدون لدفع رسوم أكبر لاستهلاك المياه في مقابل تحسين المزايا الاجتماعية [8]

ممّا سبق يؤكّد البنك الدولي في خطاباته على ربط كفاءة إدارة المياه بتسليع هذا المورد، وهو ما يرِدُ في خطاباته وأيضًا سياساته والتي تعكس نفسها في كافّة قروض البنك الدولي لتمويل مشاريع المياه في كافة بلدان العالم.

المصادر :

[1] – يحي شوكت، تأثير سياسات وبرامج البنك الدولي على العمران في مصر،مركز معلومات البنك، القاهرة 2013، ص15

[2] http://www.albankaldawli.org/ar/results/2013/04/12/water-sanitation-results-profile

[3] حافظة البنك الدولي، في الفترة من 1961 حتى 2017، تم تجميعها بمعرفة الباحث.

[4] ما بعد ندرة المياه .. الأمن المائي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، البنك الدولي، 2017.

[5] – المرجع السابق، صــ5

[6] – المرجع السابق، صــ11

[7] – المرجع السابق، صــ11.

[8] – المرجع السابق، صــ17.

*عبدالمولي إسماعيل باحث متخصص في شئون الزراعة والأرض والمياه والبيئة .

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.