الرئيسية » مقالات » أحمد النجار يكتب: مأساة الاقتصاد الفنزويلي.. السباحة ضد التيار في محيط من الأعداء!

أحمد النجار يكتب: مأساة الاقتصاد الفنزويلي.. السباحة ضد التيار في محيط من الأعداء!

تعاني فنزويلا من وضع اقتصادي مأساوي يتجلى بوضوح في المؤشرات الرئيسية المعبرة عن أداء اقتصادها، وفي نزوح أعداد ضخمة من مواطنيها في العام الماضي تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الطاحنة والتضخم الجامح الذي لا يُحتمل. فما هي تلك المؤشرات وما الأسباب الداخلية والخارجية في ذلك التدهور الذي ساهم في حشد التأييد من قطاعات جماهيرية واسعة من الطبقة الوسطى بالذات للاتجاهات اليمينية التي لا تخفي تبعيتها وولائها أو حتى سمها عمالتها للولايات المتحدة، بما يتناقض منطقيا مع مصالح تلك القطاعات في المدى البعيد.
يعتمد الاقتصاد الفنزويلي بصورة أساسية على إنتاج وتصدير النفط. ويساهم قطاع الصناعات الاستخراجية (النفط والغاز أساسا) بنحو 29% من الناتج المحلي الإجمالي، وتبلغ حصة صادرات الوقود (النفط) نحو 93% من إجمالي الصادرات الفنزويلية. والاقتصاد الفنزويلي بهذا المعني هو اقتصاد ريعي متخلف حتى ولو كان يدخل ضمن دول الدخل المتوسط على غرار غالبية اقتصادات دول أمريكا اللاتينية والوسطى. وتملك فنزويلا نحو 100 مليار برميل من الاحتياطيات النفطية وهو خامس أكبر احتياطي نفطي بعد احتياطيات مملكة عائلة سعود وإيران والعراق والكويت بالترتيب. وكانت فنزويلا تنتج نحو 2,9 مليون برميل يوميا عام 2011، ومع تصاعد الضغوط الأمريكية عليها بدأ التضييق على تلك الصادرات بقسوة وبالذات على دخولها للولايات المتحدة وهي المستورد الرئيسي لها لوقت طويل حيث استقبلت نحو 47,3% من الصادرات الفنزويلية عام 2011 قبل أن تبدأ في تخفيض وارداتها منها لتقتصر على 35% منها عام 2014، قبل ان تنهار بصورة أكبر كثيرا بعد ذلك. وتبعا لانخفاض الصادرات النفطية بشكل حاد، تراجع الإنتاج تدريجيا ليصل إلى 2,8 مليون برميل يوميا عام 2013، ونحو 2,7 مليون برميل يوميا عام 2015، ثم تراجع بقوة بعد ذلك ليبلغ 2,1 مليون برميل يوميا في عام 2017. والغالبية الساحقة من ذلك الإنتاج موجهة للاستهلاك المحلي.
وقد انهارت عائدات فنزويلا من صادراتها (النفطية أساسا) من 97,3 مليار دولار عام 2012، إلى 88,8 مليار دولار عام 2013، إلى 74,7 مليار دولار عام 2014، إلى 37,2 مليار دولار عام 2015، إلى 24,6 مليار دولار عام 2016. أي أن تلك العائدات في عام 2016 تبلغ نحو ربع قيمتها عام 2012. وكان ذلك الانهيار منذ عام 2015 بوابة الجحيم لاقتصاد يعتمد على صادراته النفطية كمصدر للغالبية الساحقة من إيرادات النقد الأجنبي. وتبعا لجفاف إيرادات الصادرات، تراجعت قيمة الواردات من 51,3 مليار دولار عام 2012، إلى 48,8 مليار دولار عام 2013، إلى 43,2 مليار دولار عام 2014، إلى 33 مليار دولار عام 2015، إلى مجرد 13,6 مليار دولار عام 2016. أي أن قيمة الواردات الفنزويلية عام 2016 لا تزيد عن 26,5% من قيمتها عام 2012.(راجع: World Trade Organization, World Trade Statistical Review 2017, p. 148, 152). وتدهورت الصادرات والواردات بصورة أكبر عامي 2017 و 2018 بسبب تشديد الضغوط والعقوبات الأمريكية، وجهود الحكومة لترشيد الواردات واستعادة التوازن لميزان الحساب الجاري.
ونتيجة الانخفاض الهائل في الواردات من السلع الغذائية والاستهلاكية دخلت فنزويلا في حالة من التضخم الجامح، خاصة مع تواطؤ القطاع الخاص الكبير العامل في مجال التجارة والتوزيع والذي يرتبط بشبكة مصالح وارتباطات سياسية وأيديولوجية مع الولايات المتحدة، ويعادي النظام الحاكم ذو التوجهات اليسارية ويعمل بصورة واضحة على إسقاطه. وارتفع معدل التضخم من 21,1% عام 2012 إلى 43,5% عام 2013، إلى 57,3% عام 2014، وتضاعف إلى 112% عام 2015، ثم تضاعف مجددا إلى 254% عام 2016، وتضاعف عدة مرات ليبلغ 1088% عام 2017، ثم انفجر بشكل جامح ومدمر ليبلغ 1370000% عام 2018 وفقا لبيانات وتقديرات صندوق النقد الدولي في تقريره عن آفاق الاقتصاد العالمي (أكتوبر 2018). والتضخم الجامح هو أحد أنماط التضخم الذي يحدث بصورة استثنائية ومدمرة للاقتصاد. وهو يحدث عندما تؤدي الزيادة في الطلب الفعال أو نتيجة حجب التجار للسلع لتعطيش السوق إلى ارتفاع الأسعار الذي يعقبه مطالبة العاملين بزيادة أجورهم بما يرفع الطلب الفعال مجددا، ويرفع تكاليف الإنتاج بما يؤدي لرفع الأسعار مجددا، وتتكرر تلك الدورة وتتسارع معدلاتها بشكل جنوني يقود الأسعار لمستويات خيالية في حالات الاضطراب السياسي والحروب الخفية بين السلطة والقطاع التجاري، أو لدى انفجار الطلب الاستهلاكي المكبوت في أعقاب الحروب. ويعد التضخم الجامح الذي ضرب ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى هو النموذج الأبرز والأكثر جموحا وتدميرا في التاريخ الاقتصادي الحديث حيث بلغ الرقم القياسي لأسعار المستهلكين نحو 100 تريليون في نهاية عام 1923 باعتبار أن عام 1918 هو سنة الأساس (=100).
وتعتبر الولايات المتحدة هي أهم شريك تجاري لفنزويلا حيث بلغت قيمة التجارة معها نحو 37,9% من إجمالي قيمة التجارة الخارجية الفنزويلية عام 2011، وظلت حتى عام 2014 عند مستوى 28% من تلك التجارة قبل أن تنهار سريعا بعد ذلك. ومشكلة فنزويلا أنها ورثت وضعا تجاريا يصعب الفكاك منه بحكم أنها تصدر النفط وأن الولايات المتحدة والدول اللاتينية التابعة لها هي التي تستورده نتيجة الميزات النسبية للتجارة بين الطرفين في ظل انخفاض نفقات النقل والتأمين نتيجة الجوار والقرب الجغرافي. ولم يكن أمام فنزويلا من مخرج سوى البحث عن مستوردين جدد من آسيا وإعطائهم خصومات سعرية حتى تستطيع منافسة النفط القادم من إيران ودول شبه الجزيرة العربية. وصحيح أن صادراتها للهند (12,6 مليار دولار عام 2014) والصين (9,8 مليار دولار عام 2014) قد تزايدت على نحو سريع لكنهما معا يبقيان أقل كثيرا مما كانت السوق الأمريكية تستوعبه من الصادرات الفنزويلية. والمخرج لفنزويلا هو التركيز على تطوير الصناعة التحويلية وتنويع الاقتصاد للوفاء بالاحتياجات المحلية من جهة، وتنويع الصادرات وتقليل الاعتماد على النفط من جهة أخرى. وهذا المخرج يتحقق في الأجل الطويل ويحتاج لدرجة من الاستقرار لم تمنحها الولايات المتحدة لفنزويلا حيث ظلت دائما في حالة ضغط عليها وتحريك للاضطرابات ضدها. وتبعا لتدهور الصادرات الفنزويلية تحول ميزان الحساب الجاري من الفائض بنسبة 2,3% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2014 إلى عجز بنسبة -6,6% عام 2015، وعجز بنسبة -1,6% عام 2016.
ورغم أن جهود ترشيد الواردات قد أسفرت عن عودة الفائض بنسبة 2% عام 2017، ونحو 6,1% عام 2018 وفقا لبيانات صندوق النقد الدولي في تقريره عن آفاق الاقتصاد العالمي (أكتوبر 2018)، إلا أن تأثير ذلك على المواطنين وعلى وفرة السلع كان سلبيا وساهم في انفجار التضخم الجامح. كما أن حلول أجل بعض الديون والتركيز على سدادها قد ساهم أيضا في تقليص الاحتياطيات الدولية لمستويات بالغة التدني (أقل من 3 أشهر من الواردات) رغم تراجع الديون الخارجية من 124 مليار دولار عام 2015 إلى 105,6 مليار دولار عام 2017. أما الاستثمارات الأجنبية المباشرة فإنها ووفقا لتقرير الاستثمار العالم الصادر عن اليونكتاد، تقلصت بشدة من نحو 6 مليارات دولار عام 2012 إلى نحو 1,1 مليار دولار عام 2016، قبل أن يتحول الوضع إلى ما هو أسوا أي خروج نحو 68 مليون دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة من فنزويلا عام 2017.
وكانت معدلات نمو الاقتصاد الفنزويلي قد ارتفعت من نحو 1,6% سنويا في المتوسط خلال الفترة من عام 1990 حتى عام 2000، إلى نحو 5,1% سنويا في المتوسط خلال الفترة من عام 2000 حتى عام 2009 خلال حكم شافيز، إلا أن المعدل تراجع بعد ذلك تحت الضغوط الأمريكية الصريحة ليبلغ نحو 1,9% سنويا خلال الفترة من عام 2009 حتى عام 2015. وسجل المعدل مستويات كارثية من الركود بعد ذلك على ضوء انخفاض أسعار النفط والحصار الأمريكي فبلغ -16,5% عام 2016، ونحو -14% عام 2017، ونحو -18% عام 2018.
والمشكلة الأعقد لفنزويلا أنها تحاول بناء نموذج اقتصادي مرفوض كليا من شريكتها الاقتصادية الرئيسية أي الولايات المتحدة، ومرفوض أيضا من جارتها العملاقة البرازيل المحكومة حاليا برئيس يميني متطرف وفاشيستي وصهيوني الهوى. إنه بشكل أو بآخر يحاول السباحة ضد التيار في محيط من الأعداء. أما الدول الأقرب لفنزويلا سياسيا مثل كوبا المُحاصَرة فإنها لا تملك مساعدتها. كما أن المكسيك التي انتخبت رئيسا يساريا من الصعب أن تتوغل في تحدي إرادة الولايات المتحدة الشريك الاقتصادي الأساسي لها. أما الصين فهي دولة تهتم أساسا بمحيطها الآسيوي وبتفادي الدخول في مواجهات مباشرة مع الولايات المتحدة من أجل دول أخرى خارج منطقتها الشرق آسيوية. أما روسيا الرأسمالية والتي تربطها علاقات سياسية جيدة مع فنزويلا فهي شريك تجاري محدود الأهمية لفنزويلا فكل منهما تصدر النفط والغاز وفرص تطوير التجارة ستظل محدودة إلى أن يتم تطوير وتنويع الاقتصاد في فنزويلا بالذات.
وفيما يتعلق بالبلدان العربية التي يؤيد نظام مادورو ومن قبله شافيز كل قضاياها وعلى رأسها القضية الفلسطينية، فإن غالبية حكوماتها تابعة للمواقف الأمريكية وربما يتشفى البعض منها في مادورو بحكم أن مواقفه القوية من القضية الفلسطينية تعري ضعفهم وتبعيتهم.
أما الببغاوات الذين يرددون الدعايات الغربية السمجة عن أن الأزمة الاقتصادية الفنزويلية ناجمة عن فساد نظام شافيز وخلفه مادورو، فإنها خارج المنطق ولا علاقة لها بما يجري في الواقع، لأن مستودعات أموال الفساد موجودة في الغرب وفي جزر وموانئ الأوفشور التابعة له، ولو كان هناك أي فساد لذلك النظام لتم كشفه وفضحه. ويمكن مناقشة مستوى كفاءة إدارة الاقتصاد، ولكن في إطار الظروف المعقدة التي يعمل فيها، أما الفساد فهو ما يحمله جاريدو وعصابته الذين يحاولون الانقلاب على الدولة برعاية أمريكية صريحة وفاضحة للعمالة.

( المقال منشور علي صفحة الاستاذ أحمد النجار علي موقع فيس بوك )

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.